مازن معروف : الأدب أوصلني فلسطين
يامن نوباني
لأول مرة تطأ قدماه أرض فلسطين، وهو الفلسطيني منذ خُلق، يتعثر في أول جملة يبدأ من خلالها التعريف بنفسه، قائلًا ما يجب أن يكون لا ما كان: "ولدت في فلـ.."، قبل أن يتوقف ويقول: ليتني ولدت في فلسطين، ثم يتابع مصححًا: ولدت في بيروت، سنة 1978، أهلي تهجروا من مخيم تل الزعتر، سنة 1976، حين كان هناك قرار بإبادة المخيم، فكانت مجزرة تل الزعتر، وكانت أكبر مجزرة تعرض لها الفلسطينيون في لبنان في ذلك الوقت. بعد تل الزعتر، تهجرت عائلتي إلى مخيم شاتيلا، فأضيف لبطاقتي، لاجئ مهجّر.
ساهمت الحرب الأهلية اللبنانية في تكوين شخصية معروف، وتنبؤه لأشياء كبيرة في المنطقة، في وقت كان فيه صغيرًا في السن، فيقول: أول احتكاك لي مع صورة الإسرائيلي كان حين دق الجنود بابنا في اجتياح بيروت في العام 1982. كنت يومها في الرابعة من عمري، وأهلي أناس وجوديون وسلميون، وأبي يهتم بترفيه نفسه والبقاء في حالة انبساط.
ويقول: في الحرب الأهلية فجأة يصبح جارك عدوك، فتخاف أن يطلق النار عليك، والسبب أن هناك تسويات سياسية تجرف الناس الى أماكن مختلفة. درست شيئا بعيدا عن الأدب، فأنا أحمل شهادة الماجستير في الكيمياء من الجامعة الأردنية، وعملت في الكيمياء والفيزياء ثم انتقلت الى الصحافة والكتابة والنقد والترجمة والتأليف.
ويضيف: أن تكون فلسطينيا في بيروت يعني أن تكون محمّلا بذاكرة أنت لست مسؤولا بالكامل عنها، بعد مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان عام 1982، صار الفلسطيني معرضا لمواقف يومية، تتراوح بين التعاطف المطلق مع الفلسطيني والبكاء عليه لأنه بات غير محمي، أو النقمة عليه، في مستوى جديد من مستويات الغربة، أو موقف تمييزي وهذا شيء يؤزمك نفسيا، ما يتعرض له الفلسطيني في الشتات أحيانا يكون قاسيا لدرجة أنه يفرض عليه كيف يتخلص من القيود الاجتماعية والسياسية وحتى الإنسانية.
وجد معروف نفسه محاطا بظرف يحتّم عليه البحث عن صورته وهويته، وأن يقرأ ما قيل فيه وما كتب عنه كفلسطيني، فيقول: لا أعرف من أين أتى حبي للأدب، لم نكن نملك مكتبة في البيت، ولا أبي كان مهتما بالكتب أو الثقافة، كنّا عائلة نهتم بتأمين قوت يومنا، أول كتاب قرأته كان عن التجربة الفلسطينية في لبنان، كان لا بد أن أطّلع على هويتي وأقرأ عن الحرب، وأقرأ أشعار محمود درويش.
في العام 2011 غادرت بيروت إلى آيسلندا بعد حصولي على منحة كاتب ضيف لمدة عامين، هناك أعطوني شقة عائلية في أرقى مكان بالعاصمة، مطلّة على بحيرة وبطّ وأناس يرقصون على الجليد. والآيسلنديون شعب طيب وراق، لا يطلب منك شيئا، سوى أن تجلس وتكتب ما شئت. وفي العام 1955 حصل الآيسلندي هالدور لاكسنس على جائزة نوبل للآدب، في قوتها كانت آيسلندا تعد 180 ألف نسمة فقط، أي بحجم مخيم من مخيمات اللجوء.
يروي معروف خلال مشاركته في ندوة حول الترجمة والخطاب الإبداعي الفلسطيني، على هامش معرض فلسطين الدولي للكتاب، أشياء مدهشة عن علاقة الكتّاب الآيسلنديين: في كل مكان هناك مكتبة أو كشك لبيع الكتب. مرة صعدت إلى سيارة أجرة، فسألني السائق عن عملي، فقلت له بأنني كاتب، فقال لي: وأنا كاتب. في المطعم وجدت "سنكريا" عجوزا سألني ماذا تفعل، فقلت له أنني أكتب، فقال لي وأنا أيضا أكتب وهذا كتابي، فوجدت نفسي محاطًا بكتّاب لا يعلنون عن أنفسهم، ووجدت نفسي أمام واجب أخلاقي، يقتضى مني أن أترجم ما يتسنى لي من هذا الأدب إلى اللغة العربية، فترجمت عشرات المختارات الشعرية وأربع روايات.
ويضيف: ولأن الآيسلنديين معزولون عن العالم، فموضوع الثقافة واللغة أساسي لوجودهم، إذا لم يطوروا لغتهم ولم يشتغلوا عليها، يعتبرون أنفسهم مقصرين، صراعهم الأول ليس سياسيا، فحين تمشي في آيسلندا لا ترى جيشا أو شرطة تحمل بنادق ومسدسات، بينما أنا قادم من بيروت التي تعج بالمظاهر المسلحة وإطلاق النار في كل مكان، بالتالي هذا الانتقال يخلق إرباكا. عقلي هناك كان يعمل تحت عامل التوتر بسبب تعودي على نمط من العيش في بيروت، وهو إطلاق النار والحرب، بينما آيسلندا قمة الهدوء، وصراعها الأول مع الطقس والريح، مع الغرق أثناء الصيد في المحيط الأطلسي.
حين أنهيت منحة العامين اقترح عليّ أصدقائي أن أتقدم للحصول على الجنسية الآيسلندية، وفعلا تم ذلك بعد عامين وشهرين من فترة وجودي فيها. قبلها في لبنان كنت أملك بطاقة لجوء –وثيقة مرور- مكتوبة بالحبر وخط اليد! لم أتصور يوما أن اشتغالي بالأدب سينقلني من لاجئ فلسطيني معرض دائما للمضايقة في المطارات الى مواطن أوروبي يعبر بسهولة. الأدب سهّل مروري، وأيضا ساهم بزيارتي إلى فلسطين. منفاي الثاني (آيسلندا) ساهم بعودتي لوطني، قصتنا سوريالية، قصتنا تحتاج لأن نذهب في المخيلة لأقاصي الحدود.
ويتحدث معروف عن ألف ليلة وليلة، ووجه الشبه بينه وبين كتب الأساطير الايسلندية، وعن تأثر الكاتب الأرجنتيني الكبير بورخيس بالأساطير. العرب لم يلتفتوا الى ألف ليلة وليلة وابن المقفع، بشكل كاف، بينما الروائي الفرنسي الكبير فلوبير قرأ ألف ليلة وليلة عشر مرات، والآيسلنديون لديهم ما يشبه ألف ليلة وليلة، وكتب الأساطير الشعبية ومتأثرون بها بشكل كبير، والتشابه بين ألف ليلة وليلة والأساطير الايسلندية، تشابه بالتكوين الذي يعتمد على المخيلة والشعر والنثر والسرد، هذه الأساطير المكونة للأدب والمخيلة الايسلندية جعلتهم دائما يستخدمون مخيلاتهم حين يريدون التطرق لشأن أدبي معين، هم يشجعون على قراءة تراثهم وأساطيرهم، والطلبة والأطفال والمراهقون ما زالوا يقرؤونها، بينما نحن لا نشجع على قراءة ألف ليلة وليلة. وهذا ما أسس للآيسلنديين علاقة بهويتهم من خلال اللغة.
ويتابع: إحدى الروايات التي ترجمتها هي الثعلب الأزرق للكاتب الايسلندي شون، وتقع في 118 صفحة من القطع الصغير، لا يوجد فيها ثرثرة واستفاضة بالكلام، بل كتبت بأبعاد إنسانية عالية، وبعدد قليل من الشخصيات، وهذه كانت مجازفة بالنسبة لي، لأن رواياتنا تعتمد على الشعارات والقضايا الكبرى وكاتبها يفهم في كل شيء.
وعن ترجمته لحكايات الكوكب الأزرق، وهي لليافعين، قال إنها تتحدث عن كوكب لا يسكنه إلا الأطفال فيأتي اليهم شخص بالغ من كوكب آخر ويدمر حياتهم، وتشتمل على مخيلة كبيرة. من مميزات الترجمة اتكالك على الثقافات الأخرى بعد ترجمتها الى العربية، وصياغتها بلغتك ونظرتك، وهنا لا بد من الإشارة للمترجم صالح علماني، الذي أثرى اللغة والمخيلة العربية بالترجمة لكبار أدباء العالم.
يقرأ معروف الأدب الإسرائيلي ويرى كيف يتعاطون ويعالجون وجودهم في فلسطين أدبيا، مشيرا إلى أن بعضهم كديفيد كروسمان، يظهر في كتابته وكأنه مؤيد للفلسطينيين، لكن حين يصل الكاتب الإسرائيلي الى الحديث عن صورة الفلسطينيين، فإن روايته تأخذ شكلا أضعف، ولا يعطي للفلسطيني أبعادا إنسانية بالشكل الذي يستطيع أن يعطيه لتفنيد الوجود الإسرائيلي، وهو دائما منقوص ومتخلف ومعتوه.
الأدب هو ذاكرة، لا أود المقارنة لكننا نشبه الآيسلنديين في عزلتهم، فقرانا ومدننا ومخيماتنا تعيش عزلة عن محيطها واكتمالها في وطن، وهذا يحتم علينا أن نكتب بمخيلة أكبر وبأصالة، وأن نخرج عن الإطار الكلاسيكي في تناول قضيتنا، ومن ثوب محمود درويش، لأنه عاش مرحلة مختلفة عنا، فهو شاعر كبير، حتى أنهم في الصين سألوني عنه، لكننا بحاجة للخروج من صوته، أن نوجد نحن الشباب أصواتنا الخاصة بنا والتي تعبر عن المرحلة التي نعيشها.
نحن بحاجة للتجريب ومقارعة المحتل في أدبه، خاصة وأننا نمتلك ميزة لا يمتلكها الكاتب الإسرائيلي، وهي أننا نستطيع أن نكتب أكثر منه، أن نكتب عن وجودنا ووجوده، أما هو فلا يستطيع الكتابة إلا عن وجوده.
ويختم معروف حديثه بالقول: الشعب الآيسلندي مثقف ومطّلع، و95% منه مناصر للقضية الفلسطينية، حتى أن أحد أحزابه كان أحد شعاراته الانتخابية "الحرية لفلسطين"، وعلم فلسطين.