إبراهيم المزين وصراخ الصمت
خالد جمعة
تتعثر الكلمات أحيانا، فيتمنى الشعراء لو كانوا موسيقيين، وتتعثر الموسيقى فيتمنى الموسيقيون أن يكونوا مسرحيين، ويتعثر المسرح فيتمنى المسرحيون أن يكونوا تشكيليين، هي دائرة تحكم الفنون منذ رسم الإنسان الأول ثوره وماموثه على جدران الكهف الذي شكل بيته الأول.
تتحرك أعمال إبراهيم المزين بشكل واضح ضمن ثنائيات وتناقضات كانت تميز خصوصية الوضع الفلسطيني بشكل مستمر، إذ إن اللون يطغى في أعمال فنانين كثيرين على الموضوع، أو يطغى المحتوى على اللون، أو أن الشكل يحاور المضمون في سفسطائية لا توصل إلى مكان، أما مع إبراهيم المزين فإن الثنائيات تندمج لتقول إن في داخل كل منا عدة شخصيات هي لا تشكل انفصاما كما يحلو للكثيرين تسميته، بل تشكل انسجاما مذهلا يثري الطبيعة الإنسانية، ويجعل من السلوك البشري الذي يبدو متناقضا، سلوكا طبيعيا، إن أعمال إبراهيم المزين تقول بوضوح إننا مركبين من عدة أسئلة، وإن كانت هذه الأسئلة في بعض الأحيان هي إجابات محتملة لأسئلة أخرى.
يتحرك عمل المزين الذي أنجزه بين الأعوام 2010 و2016 من خلال مجموعة من الخطوط تتعلق باللون والمضمون والمساحة والثنائيات، ليست ثنائيات متناقضة فحسب، بل متناقضات ضرورية، المرأة الرجل، الانشغال والانتظار، الأزرق والأحمر، بما هما الماء والنار، الأصفر والأخضر بما هما الجفاف والرطوبة، حتى الانقسام داخل اللوحة الواحدة كما هو الوضع في لوحة transition، والإنسان ـ الحيوان، لكنها ليست الثنائيات التي تفصل كل عنصر عن العنصر الذي يشكل ثنائيته، بل ينسجم معه بما هو ضروري فلسفيا للوصول إلى حالة التناغم في الحياة، الحياة التي تفرض علينا أن نكون طبيعيين أكثر مما يفرض علينا المنظور الاجتماعي من سلوكيات في معظمها لا تحظى بقناعتنا الشخصية.
28 لوحة بمقاسات مختلفة يشكل اختلاف مقاساتها جزءا من المشهد العام، يلعب الحيوان الذي تم تأليفه من أساطير قديمة، دورا واضحا في التفاعل مع السلوك الإنساني، فهو ليس وحشيا كما تصوره المخيلة البشرية، بل هو منسجم وكأنه جزء من المشهد العام، إن ثنائيات المزين التي يعيشها كفلسطيني وكإنسان، ليست منفصلة عن كونه فنانا، وليست منفصلة عن كونه فلسطينيا، كما أنها ليست منفصلة عن جغرافية اللغة التي تمتد في حدود لوحاته لتقول أشياء كثيرة، ربما تشبه ما نقوله لصديق في مقهى عابر ذات يوم، وربما تشبه أحيانا ما يقوله نيتشة في حواره المفترض مع شوبنهاور، وتشبه حوار الحضارة المصرية مع الحضارة السومرية، لا شيء في لوحات المزين قابل للتفسير المباشر، لكن في ذات الوقت لا شيء مغلق على العقل الذي يريد أن يستقبل الجمال كجمال دون الدخول في تفاصيله.
إن الذكريات التي تملأ لوحة مثل absent ليست بحاجة إلى شرح، فإن العقل في العادة يظن أنه يحتاج إلى أن يفهم ما يحيط به من معطيات كي يستطيع أن يكوّن رد فعل مناسب، لكن معظم ما يمر بنا في الحياة يحتاج إلى أن نحسه دون أن تكون لدينا انفعالات مسبقة، أو توقعات لما يجب أن يكون عليه الوضع، والمزين وضع ذلك بوضوح في معرضه، في ألوانه البرتقالية والصفراء التي تفتح للحياة أبوابا على مصراعيها، لا ليقدم اقتراحا جاهزا للحياة، بل ليقول إن كل اقتراحات الحياة ممكنة، حتى تلك الاقتراحات التي تبدو متناقضة، لأن التناقض هو ما يصنع الحياة في نهاية الأمر، فمن يتخيل ليلا بدون نهار مثلا؟.
على مستوى الحركة في النص البصري الذي قدمه المزين، فإن هذه الحركة ذاتها تعبر عن الثنائيات التي من الواضح أن المزين مغرم بها، لأنها تشكل جزءا من تعامله مع الحياة، فالحركة في اللوحات متبادلة، ما بين سيطرة العامل البشري أحيانا، وسيطرة الحيوان أحيانا أخرى، وتساويهما في لوحات ثالثة، فالمعنى لا يمكن حصره في اتجاه واحد، بل إن تعدد الاتجاهات تجعل من احتمالات التفسير في اللوحات متعددة بل وصحيحة في جميع الأحوال، حيث إن الأمور دائما هي كما نراها وليست كما تبدو عليه.
إبراهيم المزين يحمل الحياة على راحتيه، يحبها بكل ما تحمل من تناقضات، يشكلها كما يحلو له، لكن هذا التشكيل لم يكن يوما عشوائيا، بل هو تشكيل نابع من فهم عميق لما تعنيه كلمة الحياة، ونابع من تجربة تستطيع بعمقها أن تعبر عن ذاتها باللون والمساحة والحركة والصوت الذي رغم صمته نسمع صراخه عاليا، عاليا إلى الحد الذي يمكن معه أن نقول إن الفرق بين الحياة والفن هو في النهاية فرق شكلي لا أكثر، أما أن ترفع امرأة سفينة فوق رأسها لكي تكون أكبر من البحر ومن البلاد، فهذا لا يحمل إلا معنى واحدا، أن الوطن، أي وطن، لا يمكن أن يكون مهما، لا ببحره، ولا ببره، ولا بسمائه، ولا بأرضه، إن لم تكن الأولوية فيه للإنسان، وهذا ما قاله إبراهيم المزين بوضوح في معرضه الذي حمل عنوان: الصمت الصاخب، كان الصمت صاخبا حتى أنه أصابنا بالصمم.