شريك في الخامسة
رامي سمارة وإيهاب ريماوي
بديا سعيدين في تلك الصورة التي تكتظ خلفيتها ببهجة الخريجين وذويهم، كانا مبتسمين حد الفرح يهبطان من قبعتين سوداوين مربعتا الشكل، ويلفهما ذلك الرداء الفضفاض الأسود، هي تحمله على يسراها، وهو يشد إلى صدره شهادة الماجستير التي تسلمتها للتو في احتفال أقامته جامعة بيرزيت لخريجيها.
هو أثر آلة التصوير، ما أن يقف أمامنا ووراءها أحد في لحظة سرور؛ حتى يتوارى ما فينا من وجع.
لا تدري سماح حامد في أي جيب دست منديلا جففت به دموعا ذرفتها على المنصة بجوار زملائها وأمام معلميها وبقية الحضور، كانت تتمنى أن يكون زوجها وليد حباس موجودا بينهم، هي على الأقل تستحق أن يفرح شريكها لفرحها، ولكنه لم يكن.
لم يكن هذا الحفل هو أول ما تغيب عنه، طفله موسى ولد ولم يستقبله، نطق أولى تمتماته ولم يسمعه، خطى أولى خطواته ولم يره، أطفأ شمعته الأولى ولم يشاركه الفرحة، تعلم ركوب الدراجة وسقط ولم يسنده.
وضعت سماح طفلها بعد الشهر الثامن من غياب زوجها القسري، تمنت لو عادت إلى المنزل برفقة اثنين، وكأي أم ودت لو تربى ابنها في جو عائلي مكتمل العناصر، ولكن تفكيرها ينحصر الآن في القيام بكل الأدوار، لمّا وجدت نفسها محاصرة.
حملها كان صعبًا، طلب منها الأطباء ملازمة الفراش لخشيتهم على الجنين، وعملها لم يكن يحتمل غيابها، والمجتمع عيونه لا تنفك تراقبها، ويطالبها بالانفصال، لم يكن ثمة من يقيم وزنًا لكيانها، آثرت أن تبقى وفية لحبيب عاشت وإياه قبل ارتباطهما قصة حب، ولأجل ذلك عرفت ماذا ستفعل وأين ستذهب وكيف ستربي ابنها وما هو طموحها، وكيف تسلك درب تحقيقه.
"الإنسان أكثر من يعرف نفسه، إذا اعتقد أنه ضعيف وآمن بذلك سيقوده هذا حتمًا نحو التلاشي والتسليم بالأمر". قالت سماح.
قررت فرض قوتها ورسمت مسار حياتها ووضعت هدفًا تسعى نحو تحقيقه، "إذا اخترت أن أكون ضعيفة وذهبت باتجاه الاستكانة والعودة للعيش في كنف أهلي وعائلتي؛ سألغي دوري الأساسي وأصبح شخصًا تابعًا"، أنجزت ترتيبات مالية وسددت كافة الديون المترتبة على زواجها، سجلت للماجستير وأكملت دراسته، وانهمكت حتى في أبسط الأمور كديكورات المنزل كل ذلك وحدها. الخطة كانت واضحة، ولكن بعض الحوادث البسيطة غير المتوقعة تنكأ جرح غياب الشريك، "من منا لا يحتاج أحداً أو سنداً بجانبه؟".
تؤمن سماح أن المرأة مخلوق قوي يمكن أن تقوم بالكثير من الأمور، لا ترى في نفسها امرأة اعتيادية، صاحبة رسالة في الحياة تبدأ من الأسرة وتتسع لتشمل المجتمع ولا تنتهي، والأولويات مرتبة وكلها تدور في فلك شخص ناجح يكوّن أسرة ويربي طفلًا قويًا وسعيدًا.
رهنت عمرها لطفلها، قالت إنه يجب أن يكون سعيدًا فهو لم يقترف ذنبًا بأن والده مغيب، قررت ألا يمر عليه يومٌ دون أن تُدخل الفرح إلى قلبه، وعملت على مواجهة كافة الظروف حتى يعيش حياة مرفهة، سجلته في أجود المدارس، ألحقته في أفضل النوادي، لم تبخل عليه في شيء، عوضته عن كل ما يرتبط بغياب الأب.
ولكن، هنالك تفاصيل لا تحيا سوى بين الطفل ووالده، أن يذهبا مثلاً سوية إلى متجر، أو أن يترافقا إلى محطة تعبئة الوقود، أو إلى الحلاق، أو السوق، "خانة الذكريات ستبقى جائعة خلال المرحلة التي تتكون فيها شخصية الطفل، إذا لم تتغذ بمواقف صغيرة وربما تافهة بالنسبة للبعض".
موسى هو الوتد الذي تشبثت به للحياة، وهو الأمل الذي أضاء حياتها من جديد بعد أن كانت تصف نفسها برسول الكآبة، لم يكن في حياتها ما يبعث على التفاؤل.
الآن وبعد أن أصبح موسى في الخامسة أخذ يسأل كثيراً عن أبيه، النشاطات التي تقوم بها والدته لتعويضه وكمية الحب التي تمنحه إياها لا يمكن أن تلغي دور الأب، تألم هي حين ترى في عيون صغيرها أنه دائم البحث عن ذلك الرجل الذي يفترض أن يكون بجانبها في شكل العلاقة المثالية بين الزوجين.
ما أن تنظر إلى موسى، وبعيداً عن الفلسفات السياسية؛ يغزوها ذلك الدافع بضرورة بناء جيل قادر على مجابهة الاحتلال ومساعيه نحو التجهيل، وبتأسيس جيل قوي ومتعلم وواعٍ ومثقف يدرك حقوقه وحدوده.
حين قرر وليد أن يضحي بسنوات من عمره من أجل الوطن، استيقظ لدى سماح الإحساس بأهمية الرسالة التي يجب أن تتبناها وتعمل على نشرها، من خلال التنشئة الصحيحة، اختارت أن يبقيا سوياً رغم الغياب القسري، لأنها مؤمنة برسالة الوطن والمقاومة.
تدير سماح منذ 3 سنوات جمعية أصدقاء جامعة بيرزيت، وخلال هذه المدة سجلت نجاحات أطفأت بها تساؤلات من شككوا في قدرتها على قيادة جمعية عمرها 23 عاماً، بعد أن عملت على تنشيط تعاونية "إيد بإيد .. صنع بأيدي طلبة جامعة بيرزيت".
حين التحقت بجامعة بيرزيت في برنامج البكالوريوس؛ اضطرت للعمل لتسد احتياجات الدراسة، نظراً لحالة أسرتها المتواضعة، وحين استلمت إدارة الجمعية فكرت في أن يقوم الطلبة بإعانة أنفسهم، من خلال حرف يدوية يقومون بإنجازها وبيعها والاستفادة من ريعها.
يستفيد من الجمعية اليوم 200 طالب وطالبة يقومون ببعض الحرف داخل الحرم الجامعي، مقابل تمكينهم مادياً أو بتغطية تكاليف دراستهم. الجمعية كانت تقدم 35 منحة دراسية، وأصبحت تعطي 100.
بالحصول على شهادة الماجستير وانتزاع موقع مهني مرموق، أرادت سماح أن تكون أماً مثالية يفخر بها ابنها، بأم عينه يرى كيف ثابرت وعملت وتعبت واجتهدت، واختارت طريقاً تتسع لتضع فيها بصمتها.
سيبقى موسى مميزاً حتى لو رزقت بأبناء آخرين، هو شريكها في سنوات الألم والوحدة، استمدت منه القوة ومدته بها ولأجله كافحت. كثيرة التفاصيل التي عاشاها سوية والتي من شأنها أن تؤصل العلاقة أكثر وأكثر.
حفل التخرج كان أصعب مرحلة، لما لمحت أهلها وكان بينهم صغيرها موسى، قالت وهي تذرف الدموع: "أضعف الإيمان أن يكون وليد موجودا في هذه اللحظة. ست سنوات ليست فترة قصيرة، تفاصيل جمة، حوادث وأحداث كثيرة، كل زوج يفخر بزوجته الناجحة، وأنا أبادله نفس الشعور. كل أول مرة لموسى تمنيته لو كان بيننا".
تبقى على ألم سماح حامد 6 أشهر، بعدها سيخرج وليد من الأسر، هي لا تعلم كيف سيكون أحساس طفلهما الذي نما خمس سنوات دون وجود والده، خمس سنوات بلا عاطفة ولا حنان الأب، حضن الأب هو حب لا يعوضه حبها، أكثر ما تخشاه أن يكون ابنهما موسى تعود على الحياة بدون أب.
ــــ