الرجل الأخير..
زهران معالي
سبعة عقود من الزمن مرت، ولا يزال الثمانيني أسعد السويسه "أبو سامح"، يجلس خلف ماكينة الخياطة بجسد نحيل؛ منشغل بحياكة قنابيز باتت تقتصر على المعارض التراثية والمناسبات الوطنية بعد أن مات مرتّدوها.
في خان التجار بالبلدة القديمة في مدينة نابلس، داخل دكانة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 10 أمتار، بدأ السويسه مذ كان في العاشرة من عمره العمل مع والده في خياطة القنابيز والسراويل (لباس الفلسطينيين)، دون رغبة منه.
الدكانة الصغيرة التي يعمل فيها السويسه مازالت تحتفظ بشكلها القديم؛ أرضيتها وسقفها المعقود مرصع بالبلاط التركي، مكونة من غرفتين، يستغل إحداها والأخرى خالية مهجورة، فلم يدخل عليهما تحسينات سوى قصارة الجدران.
يستيقظ السويسه في الرابعة فجرا ليصلي ويتناول إفطاره المفضل الزيت والزعتر مع كوب من الشاي، ثم يعدل مزاجه الصباحي بالاستماع لصوت فيروز وأخبار المدينة مع تناول رشفات من القهوة الحلوة على شرفة منزله في حي المعاجين.
يرتدي لباس العمل المكون من بنطال وقميص، ويقله نجله الذي يعمل سائق تكسي في السابعة صباحا لدكانه في الخان، ليبدأ نهارا جديدا وقصصا جديدة من التعب والتسلية في ذات الوقت، على أمل أن يأتي أحد المحافظين على لباس القنابيز لخياطة إحداها.
كان محل السويسه حتى سنوات سابقة يمتلئ بالزبائن الراغبين بخياطة القنابيز أو السراويل، إلا أنه يخلو الآن من معظم زبائنه، فآخر قنباز قد حاكه كان قبل أربعة أشهر، فجميع زبائنه الذين كانوا يأتونه من قرى طولكرم ونابلس وقلقيلية وجنين قد "ماتوا" وفق السويسه.
السويسه اليوم بعد سبعين عاما من خياطة القنابيز، قال لـ"وفا"، إن عمله يقتصر على "ترقيع ورتق الملابس فقط ويستمر بالعمل حتى الخامسة مساءً، بعد أن كان ينتج يوميا في سنوات القرن الماضي أكثر من 10 قنابيز، بالإضافة للسراويل والأكفان، نتيجة انتهاء اللبس العربي وإحلال اللبس الإفرنجي مكانه".
لا يتذكر السويسه تاريخ زواجه بأم سامح لكنه يؤكد أنه بعد النكسة عام 1967، حيث تزوج برفيقة دربه من قرية الجديدة جنوب شرق جنين بعد أن اختارتها أمه، واستمرت خطبته لمدة شهر كان يتسلل خلالها لرؤية أم سامح خفية عن أبيها، حيث كانت العادات تحظر على العريس رؤية خطيبته إلا يوم الزواج.
ويضيف "يوم زواجي أحضرها والدها من الجديدة إلى نابلس مرتدية العباءة؛ لكي لا يراها أحد، دون طبل أو زمر مثل اليوم".
تزوج بسن متأخرة بعد أن بلغ السابعة والثلاثين من العمر، وأنجب ثمانية، أربع بنات وخمسة أبناء، إلا أنه فقد ثلاثة منهم، سامح الأكبر كان أحدهم الذي توفي نتيجة سقوط جدار استنادي عليه في بيت جده بعد أن أكمل 23 عاما، وكان فقدانه من أصعب اللحظات في حياة السويسه وأكثرها حزنا، فيما توفي الاثنان الآخران نتيجة مرض الثلاسيميا بعد أن أكملا عامين من العمر. إلا أن الحلم لديه يبقى ينبض ويكتمل بزفاف ولديه وأن يرى أحفاده وفق قوله.
كان يحب الاستماع لأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ويستذكر عندما كان بعمر عشر سنوات عندما قدم الأخير لمدينة نابلس ومنعه والده من حضور حفل أحياه بالمدينة، قائلا "كنت محكوم بالإعدام من والدي".
أبو سامح مثل غالبية الفلسطينيين يعشق طبخة المقلوبة، والعكوب التي تعتبر من الأكلات المفضلة لدى أهالي نابلس، بالإضافة لمحشي الكوسا والباذنجان التي تعدها أم سامح، إلا أنه لا يعجبه حال النساء اليوم. ويضحك "نسوان اليوم عايشات على الفلافل والنواشف".
ولا يحب أبو سامح الحداثة والتطور التكنولوجي كثيرا، وفضل طوال سني عمره عدم اقتناء هاتف محمول؛ وذلك كون "الجوالات همالة ووجع رأس، منيح لكن طريقة استخدامه سيئة، الأجانب جابوا الجوالات حتى يخربوا بيتنا ونبقى تابعين".
وفيما يتعلق بالتدخين، قال أبو سامح أنه لم يدخن خلال الثمانين عاما إلا عام واحد، حيث دخن "التمباك"، وترك التدخين لأنه "لا فائدة منه ومصروف فاضي" وفق قوله.
ويعود السويسه بذاكرته لبداية عمله مع والده في خياطة القنابيز مذ كان بعمر العشر سنوات، حيث اضطر إلى ترك مدرسة الخالدية في نابلس بعد أن أكمل دراسة الصف السابع، نتيجة اندلاع الحرب عام 1948 وليعين والده في تعليم أخيه الأصغر.
وكان يأمل أن يكمل دراسته في مجال التخصصات المهنية كالنجارة والحدادة إلا أن والده أجبره على العمل معه في الدكان.
وعاصر السويسه فترة الانتداب البريطاني والحكم الأردني والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، واصفا فترة الحكم الأردني بالفترة الذهبية في خياطة القنابيز، إلا الحركة بدأت تدريجيا بالتراجع بعد النكسة واحتلال الضفة الغربية من قبل الاحتلال.
وبمرارة عبر عن الحال التي وصل إليه الوضع في العالم العربي وتراجع الصناعات فيه واعتماده على ما ينتجه الغرب، قال السويسه "اللباس العربي انتهى، لأنه ما بدنا اللباس العربي ولا القومي.. نريد أن نبقى تابعين للكفر".
ويعود السويسه خلال حديثه لـ"وفا" بذاكرته لما قبل النكسة، حيث كان يأتي الفلاحون إليه بعد انتهاء المواسم لخياطة القنابيز الصيفية والشتوية من منطقة شمال الضفة الغربية، محضرين معهم القماش السوري الجيد النوعية، مشيرا إلى أن اللباس كان متشابها في تلك المنطقة.
ويوضح السويسه أن ما يقارب 10 خياطين بالخان كانوا يحيكون القنابيز، إلا أنه لم يتبق اليوم سواه محافظا على هذه المهنة رغم أنها متعبة، متمسكا بدكانته التي ورثها عن والده، رافضا بيعها رغم العروض الكثيرة من قبل جيرانه ببيعها، إلا أن أولاده الاثنان رفضوا العمل بمهنته فأحدهم يعمل سائقا والآخر بائعا للسجاد.
ويبقى السويسه مثال للفلسطيني الذي ورث المهنة عن أجداده والمحافظ على إرث لن تمحوه تقلبات الزمن.