جيفارا "القارئ بلا حدود" في بيرزيت
يامن نوباني
سبع صور فوتوغرافية نادرة، ملتقطة للقائد الأممي أرنستو تشي جيفارا، في أماكن هي الأكثر قسوة وغير متوقعة، حيث يجلس فوق كومة من الأخشاب في الجبهة يمسك سيجارا كوبيا، صورة أخرى وجيفارا فوق القش يقرأ، مشهد ثالث لجيفارا وهو يتسلق شجرة ويجلس فوقها بينما يمسك بيديه كتابا.
هذه الصور، إضافة إلى كتبه ومراسلات عائلية، عرضتها جامعة بيرزيت أمس الاثنين، ضمن معرض أطلقت عليه: جيفارا "قارئ بلا حدود".
ولعل أبرز محطات حياته المعرفية والثقافية، تأسيسه مكتبة في أحراش بوليفيا، ضمت سبعة آلاف كتاب.
وبحسب القائمين على المعرض فقد افتتح للمرة الأولى في "روساريو" من قبل مركز الدراسات الأميركية اللاتينية، كجزء من أسبوع القراءة، الذي عقد في نيسان في مدينة روساريو، ليحمل بعده طابعه المتنقل، وينتقل في فلسطين ضمن الشراكة مع مؤسسات ثقافية وأكاديمية، مقدما للجمهور الفلسطيني إضاءة على حياة تشي "القارئ المنهجي"، و"القارئ بلا حدود".
يكتسب تنظيم هذا المعرض في فلسطين بعدا خاصا، نظرا للمكانة التي يحتلها جيفارا، كمناضل وثائر أممي ملهم، في وجدان الشعب الفلسطيني الذي يناضل، منذ عقود طويلة، من أجل الحرية والعدالة، تلك القيم التي نذر جيفارا حياته من أجلها.
إحدى تلك الصور تجمع أرنستو مع عماته ايرثيليا وبياتريث جيفارا في بونتا ديل ايستي سنة 1961، حيث يقول والده فيها: من صغره أسس ارنستو علاقة متينة مع عمته بياتريث في كتابه "ابني التشي". يصف بعض الحكايات عن هذه العلاقة:
"أختي بياتريث لم تتزوج ولأنها لم تنجب أطفالا، حولت إلى ما يمكن تسميته الوصي الدائم للعائلة، ولكن كل حبها وحنانها تدفق لإرستو الذي كان يبادلها الشعور نفسه".
بالنسبة لها ارنستو الصغير كان بمثابة ابنها وحفيدها كان شعورا رائعا رؤيتهما معا، هي دائما تعتني به وهو دائما قلق عليها، بياتريث تظهر في حياة تشي كمصدر الكتب، بما في ذلك تحسين مزاجه لمساعدته على التعامل مع الساعات المملة والطويلة من الراحة، شكل الربو الذي كان يعاني منه هوسا لبياتريث. عندما كنا نسكن في التا جارثيا كانت دائما تبعث لنا مقالات ووصفات طبية لهذا المرض، وكانت العمة قادرة على بناء علاقة مع ابن أخيها من خلال الرسائل. استمرت طوال حياة إرنستو، "اختي بياتريث احتفظت بحماسة بالرسائل التي تلقتها من ارنستو وهي كثيرة، ولأنها تلقتها على مدار 35 عاما عندما بدأ الكتابة كان في الرابعة من عمره وكانت والدته تساعده دوما".
تواصلت مراسلاته مع بياتريث لتكون ثابتة ومتينة لسنوات عديدة، ولم تتوقف عن الرد على الرسائل وإعطاء الأخبار عن عائلتنا بأكملها. ارنستو كتب لنا مرات عديدة، الى سيليا ولي، قائلا إنه عن طريق بياتريث يعرف كل أخبارنا.
تبدو بياتريث كالصديقة التي لا تتعب. عندما كان طالبا كانت تجلس تحرسه وتراقبه، ارنستو كان يقضي الليالي دارسا لتخصصه الطب. لم تكن أختي تنام وهو يدرس، وكانت ترافقه في أوقات راحته، وكانت تعامله بكل حب وحنان وتفان، عندما كان ارنستو يسافر في أميركا اللاتينية كانا يتواصلان مقصّرين المسافات عن طريق تبادل الرسائل التي من خلالها لوحظ التحول من مغامر إلى ثائر. استمر بمراسلة بياتريث حتى بعد أعوام عدة من إقامته في الخارج. من خلال الرسائل التي كان يرسلها لها كان يشرح تفاصيل حياته، وهذا يساعدنا على أن تحدد بدقة ماذا كان يحدث في سفراته وأعماله وأدائه كثائر.
بعد انتصار الثورة الكوبية وصلت لحظة اللقاء. بياتريث تعود لتعانق ابن اخيها العزيز ارنستو الذي أصبح التشي، في العام 1961 كنا في بونتو دياليتسي، كانت معظم العائلة موجودة وصل التشي من كوبا كممثل للحكومة، وذلك لاجتماع منظمة الدول الأميركية. سافر لبضعة أيام وكان مشغولا جدا، كان يخصص لنا ساعات تناوله للطعام على الطاولة ببذلته كقائد، كان يجلس في مكان مخصص. في جانب كانت أمه وفي الجانب الآخر عمته بياتريث، باستمرار كان يعانق الاثنتين.
ولد في عائلة احتلت القراءة فيها دورا متميزا، كانت الكتب جزءا من حياة ارنستو منذ البداية. اعتاد اللجوء إليها للتغلب على الأيام التي كان يجب أن يبقى فيها في السرير بسبب الربو، بنظام ودقة، بدأ منذ الصغر بتنظيم قراءاته، وتسجيل كل تلك التي قرأها والتي يريد قراءتها.
يقول والد تشي في إحدى كتاباته: "الربو يجبره على السكون دون حراك، استغل هذا السكون الجسدي للقراءة وإعادة القراءة، كانت مكتبته مليئة بجميع أنواع الكتب، حيث كان يوجد لسلغري، وستيفرسون، وخوليو فيريني، والكسندر دوماس، امتلأت مكتبته بالكتب المتعلقة بالسفر والرحلات إلى مناطق غير معروفة". ارنستوا جيفارا ليتش".
ورأى القائمون على المعرض أن هذه الصور تساهم في إعادة منح الكتاب والقراءة والمعرفة مكانتها وقوتها في السياق الفلسطيني، كأداة مهمة من أدوات المقاومة والتحرر والانعتاق من الظلم الذي يمثله الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى الدور الذي احتلته القراءة والمعرفة على مدى سنوات حياته كلها، ودورها في تعميق رؤيته حول الثورة وقضايا الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وفي صقل شخصيته الكونية ومسيرته الاستثنائية، التي جعلت منه أيقونة عظيمة ألهمت وتلهم الملايين حول العالم، وللتعريف بمجموعة القراءات الموسوعية والغنية التنوع التي غذت فكر تشي منذ الطفولة المبكرة وحتى آخر أيامه في غابات بوليفيا، إضافة إلى التعريف بالكتب المتعلقة بنشأته النظرية (في السياسة، والتاريخ، والاقتصاد، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس) كأساس لبناء نظريته الخاصة.
تقول رفيقته أليدا مارش: كان يقرأ في جميع الأوقات، في أي وقت فراغ بين الاجتماعات، وحين يذهب من مكان إلى آخر.
ويقول طبيبه ورفيقه: عندما كنا نقف لاستراحة، كان التشي يغتنم الفرصة للقراءة، بينما كان الآخرون منهكين ويفكرون في النوم.
في الكونغو، قال جيفارا: تم إرضاء نقطتي ضعفي بشدة في الكونغو، التبغ الذي لم ينقصني أبدا، والقراءة المتواجدة دائما بكثرة.
هاري فيجباس تامايو، مقاتل في كوبا والكونغو وبوليفيا، يقول: جمعنا مكتبة واسعة، كان لدينا العديد من كتب الاقتصاد والتاريخ، استغلينا الحياة السرية التي أمضيناها في بوليفيا في اكتساب 500-600 كتاب، اضافة إلى ذلك كان يقرأ معنا روايات شعبية بشكل جماعي بطريقة جعلتنا نفهم الناس في أميركا اللاتينية.
وقال فيه الفلاح رافئيل فيردسية: "في بعض الأحيان في المساء كان يقرأ هناك، جالسا على حجر، لا أعرف الكتاب الذي كان يقرأه لأنني لم أكن أحب أن أسأل كثيرا، ولكت أتذكر رؤيته يقرأ، بينما كانت الحشرات تقرصه، لكنه من شدة تركيزه العميق في القراءة، كان بالكاد يحس بها".
وفي إحدى رسائله الى عمته، عزيزتي بياتريث: سأبعث لك نقودا لكي تشتري لي من المكتبة ثلاثة كتب: صغار الأسكا، والأقزام المزارعون، والتشانشين، أنا وروبيرتو مريضين. قبلاتي وتحياتي لك ولجدتي.
كما كتب لأمه من المكسيك عام 1954: "وأود منك أن ترسلي لي حتى ولو بالسفينة بعض صفحات الجرائد اليومية، بعشرين سنتا تستطيعين إرسال الكثير من الجرائد القديمة". كما كتب إلى عمته عام 1956 "أرغب بشدة في أن ترسلي لي الجرائد، لم أطلب ذلك منك مجددا لأنني لا أعرف إذا كنت تحبين فعل ذلك. بالنسبة لي هي مثيرة جدا لاهتمامي، حتى عدما تبعثين لي "ذا نيشن" تلك الصحيفة الشعبية.
يشار إلى أن جيفارا، زار غزة في سنة 1959، وتفقد المخيمات الفلسطينية فيها، والتقطت له صورة أمام منزل الحاكم الاداري المصري لقطاع غزة في ذلك الوقت أحمد سالم.
ويذكر أن الجزائر استضافت عام 1964 مؤتمرا خصص للبحث في نزع السلاح النووي بمشاركة العديد من قادة وزعماء الدول، وكان من بينهم جيفارا على رأس الوفد الكوبي، فاستثمر القائد خليل الوزير (أبو جهاد) هذا المؤتمر لتوطيد العلاقات بينه وبين جيفارا، الذي أمضى فترة بعد المؤتمر في الجزائر، قضاها بصحبة أبو جهاد، تعرف خلالها على حركة "فتح" وأهدافها وتطلعاتها، وقد كانت هذه العلاقة فاتحة خير لضمان الدعم الكوبي لحركة فتح.