بائع ألحان البوص
إيهاب الريماوي
يسرق المسامع حين تهبط أصابعه على ثقوب أحدثت في قضيب بوص. تجده هنا وهناك أو في الشارع المقابل، لا يلفت نظر الذائبين في زحام المدينة سوى بصوت أنجبت أم الدنيا أداته.
علاقته بالقطيع والقطيعة وجينات جعلت منه عازفاً.
منذ 25 عاماً مَلّ القطعية وقاطع القطيع، ظن أنه كبر على ذلك رغم أنه كان في مطلع العشرينيات، ترك الغنم هناك في الريحية بالخليل وجلب النغم هنا إلى المدينة.
من قبله جده الذي عاش 130 سنة؛ قضى أغلب شبابه في المراعي يسلّي نفسه بموسيقاه وهو يقود القطيع ليقتات من خير الأرض، والأرض لم يعد خيرها سخياً كما كان، فقادت لقمة العيش محمد إلى الحاضرة.
يعرف تفاصيل المدن ويكاد يحفظها عن ظهر قلب، كان في طولكرم وجنين ونابلس ورام الله وبيت لحم والخليل، طوى طرقاتها ذهاباً وغدوا.
محمد طوباسي آثر الخروج من وداعة القرية إلى شبح المدينة، ففي الأخيرة متسع لينصب شباكا يصطاد بها من يطرب لنغمه أو يتراقص عليه، ومقابل 5 شواقل يبيعهم آلة علّهم يقلدون مهارته في إخراج أصوات شجية منها.
ورث محمد اتقان العزف على "الشبابة" من جدّه، كما كان يعزّي وحدته التي يجد نفسه فيها حين يرعى الأغنام في سهول الريحية؛ بتطوير مهارته في إصدار الألحان التراثية من تلك الآلة.
ولما يبست المراعي وأقحلت الأرض، وجد نفسه مضطراً للبحث عن عمل آخر. لم تكن الوظيفة في انتظاره لأنه هجر المدرسة بعد الصف الخامس، فلجأ للاستثمار في هوايته.
بدأ بالبحث عن مصدر للبوص. المحلّي منه الذي ينمو في مناطق أريحا والأغوار لم يكن مناسباً، إذ ينمو مليئاً بالعقد، ما يعقّد إحداث الثقوب فيه وتحويله إلى آلة موسيقية.
تعرف على تاجر من منطقة الشيوخ في الخليل كان يستورد البوص من مصر، وأم الدنيا بوصها يحتوي على عقد أقل بفعل غزارة مياه نهر النيل الذي يرويها، أبرما بادئ الأمر صفقة صغيرة، اشترى منه بضعة أعواد، قصّها على مقياس شبابة جدّه التي ورث، وأحدث فيها الثقوب.
لم تكن إصداراته الأولى من هذه الآلة جيدة، حتى أن بعضها كان يصدر صوتاً أشبه بالضجيج، أخذ يقلّد شبابة جدّه بحذافيرها، إلى أن وصل إلى النموذج الأفضل. شبابة رخيصة الثمن بصوت أقرب ما يكون إلى ذلك الذي يخرج من آلة مشابهة بتكلفة أعلى.
بادئ الأمر، كان يلتقط بضع شبابات بين يديه، يطوف بها قريته ومحيطها، يأخذ ركناً ليعزف لحناً من عشرات يتقنها، ثم يكمل الجولة.
شيئاً فشيئاً أخذ سوقه يتسع وراح يذيع سيطه في الخليل بأكلمها، وأضحى معروفاً ببائع ألحان البوص، وازداد الطلب على شباباته، فقرر الانطلاق بتجارته إلى مدن أخرى.
ولما أخذت الآلة مكان الإنسان في أحيان كثيرة؛ وجدت طريقها إلى بوص محمد، إذ أصبح تقطيعه أسرع وأدق، وثقبه كذلك.
يبيع في اليوم الواحد ما بين 40 إلى 50 قطعة، ارتباط الناس بالتراث والهوية يدفعهم لشرائها، كما أن ثمنها لا يقف عقبة أمام من يريد اقتنائها.
ما يدخل عليه من بيع هذه الآلة ذات الثقوب الستة، يكفيه لإعالة أسرته المكونة من 11 فرداً، بعضهم يتلقى تعليمه في الجامعات.
يتعجب طوباسي من إنحراف الناس نحو الحفلات باهظة الثمن، ودخول "الدي جي" إلى سهرات الأعراس، بدلاً من إحيائها بشبابة لها قدرة خارقة على جمع حلقات الدبكة الشعبية حولها.
لا ينفك فم محمد يقبّل فتحة الشبابة، فهو قادر على النفخ فيها لساعة متواصلة دون أن يكلّ، يتوقف حين يدنو منه شخص ليسأل عن ثمنها، فيقول: "خمسة شيكل"، ثم يعاود العزف.