التين في الذاكرة الوطنية
آيات عبد الله
تزداد المدينة المشهورة بالحلوى حلاوة في شهور الصيف، بإنتاجها ما يقارب 1200 طن من ثمار التين، فمع حلول تموز ترى الباعة يفترشون الأرصفة، أغلبهم قادم من قرية تِل الواقعة جنوب نابلس والمشهورة بزراعة التين على مستوى الوطن.
مقابل أحد المحال التجارية وسط مدينة نابلس المشهورة بصناعاتها التقليدية، وجد المزارع فتحي حامد (63 عاماً) مكاناً له، فمنذ 26 عاماً وهو يأتي ليبيع التين في موسمه الممتد من شهر تموز وحتى بداية تشرين الثاني، ويقول: "أخرج يومياً لأبيع التين الحماري والخرطماني، وهما من أجود الأنواع التي منها الخضاري والعجلوني والموازي، حيث يتراوح سعر الكيلو في بداية الموسم بين 15 إلى 20 شيقلا".
التين مثله مثل مخرجات القطاع الزراعي الأخرى يحفل بأحاديث كثيرة في الذاكرة الوطنية. ويروي حامد عن أهل قريته الذين أقاموا مهرجاناً سنوياً للتين: "ما أن يبدأ الموسم حتى تراهم في الصباح الباكر رجالاً ونساءً، كبارا وصغارا، يذهبون إلى قطف الثمار التي نبيعها كلها، فالزائر للقرية لا يصدق جمال المنظر، والمزارعين عائدون إلى القرية بمثار التين التي قطفوها من أراضيهم الزراعية".
وتبلغ مساحة الأراضي المزروعة بالتين في محافظة نابلس 600 دونم، موزعة على أراضي 56 قرية، ويقول رئيس قسم البستنة في مديرية الزراعة محمد عاشور، إن قرية تل تضم أكبر مساحة أراضي مزروعة بأشجار التين، والبالغة 700 دونم، وأكبر محصول والمقدر سنوياً 420 طنا.
ويضيف عاشور: "تساعد المديرية المزارعين في عملية تسويق المحصول والعناية بالأشجار، حيث تكفلت مؤخراً برش المبيدات الزراعية، التي تمنع تساقط أوراق التين".
رواية حامد عن علاقته بأشجار التين التي يملكها، تذكّر بقول الكاتب الفلسطيني زياد خداش "أرغب في عائلة من شجر أيضاً"، فحامد الذي قد تصل به الأمور إلى الاعتناء بحبات التين واحدة واحدة، ما أن ينتهي الموسم حتى يشرع في تقليم الشجرة ورشها بالمبيدات إن لزم الأمر، وحراثة أرضها.
في هذه الأيام يكثر الحديث عن التين. ففي مدينة نابلس ليس صعبا العثور على باعة يزودون المشترين بتين حلو، وحديث حلو عن التين.
لم يكن التين لدى الفلسطيني مجرد طعاماً، بل كان جمالاً وحباً، فتغنى به الشاعر الفلسطيني عبد اللطيف عقل في قصيدته "حب على الطريقة الفلسطينية"، حيث يقول العاشق مخاطباً وواصفاً محبوبته : "أعيشك في المحل تيناً وزيتاً،، وألبس عريك ثوباً معطر،، تصيرينني وأصيرك تيناً شهياً ولوزاً مقشر".
وحين كتب الشاعر مريد البرغوثي ذاكرته بعد 30 عاماً من الغربة في سيرته "رأيت رام الله"، وصف شجرة التين الخضاري التي كانت في منزل العائلة بأنها سيدة الدار وسيدة الفناء، فالشاعر يذكر بعد كل هذه السنين تفاصيل شكلها وموقعها، فقال حين رأى مصطبة من الإسمنت مكانها "في موضعها المحفور في ذاكرتي رأيت الفراغ يشغل الفراغ".
وحين اشترى مريد حبة التين الواحدة في العاصمة فيينا بما يقارب الدولار، اعتبر ذلك خيانة لشجرة الخضاري، وقال لزوجته رضوى وابنه: "لو عرفت ستّي أم عطا أنني دفعت هذا المبلغ في حبة تين واحدة لأرسلتني إلى بيت لحم، فقالت رضوى: إشمعنى بيت لحم، فأجاب لأن فيها مستشفى مجانين".
أما التين في سيرة الكاتب حسين البرغوثي "سأكون بين اللوز" فيذكره بالرعاة، وبحريتهم التي يتمناها ويحسدهم عليها، فيصف صديقه في الطفولة "علي الراعي" حين يعد الطعام: "حلب الغنم في إناء من الألمنيوم وعصر فوقه قطرات من حليب التين (سائل أبيض حمضي، إن لمس الأعين التهبت بحدة، وينز من عرق ثمرة التين المقطوعة عن أمها وهي لم تزل فجة)، فتخثر حليب الغنم إلى جبن لذيذ جداً بمذاق التين".
ذاكرة الأجداد في فلسطين تسكنها الأشجار التي كانت لهم وطناً ينتمون لها ويتغنون بها: "لا يا بلادنا أم العنب والتين، وإحنا إللي رحلنا وغيرنا مقيم"، ومن أمثالهم المشهورة والمرتبطة بالتين: "الطويل بطول التين والقصير بموت حزين"، فيضرب هذا لمدح الطول مثلاً.
"عسل يا تين، خرطماني يا تين" نعود من الذاكرة على صوت البائع حامد ورفاقه الذين يقدر عددهم بـخمسة عشر بائعاً من قريته فقط، يتوزعون في شوارع المدينة، يبيعون التين والصبر والعنب، كعادة الفلاحين وأهالي القرى في كل موسم لكل محصول.