مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

كتّاب يروون مدنا

 يامن نوباني

في حياة كل كاتب بقعة جغرافية تخصه، مدينة ما، جاءها متأخرًا أو ولد فيها، أو مر منها، فألهمته. مدنهم القريبة والبعيدة الباقية والمتغيرة، مدن سلام وأخرى تجتاحها الحروب بعنف، مدن التصقت بأصحابها، وبعضها هرب منها كُتّابها وقالوا فيها عتابًا قاسيًا وراحوا يتمنون غيرها.

مدن دخلت حياة كُتّاب، وصارت وطنًا صغيرًا يتسع جنونهم، عزلتهم، خطوات أقدامهم، شرودهم في تفاصيلها، عاشوا فيها حبًا أو خيبة، مدن دافئة وأخرى باردة.

محمود شقير: القدس مدينة من طراز خاصّ تعلّمت منها وألهمتني وما زالت

القدس هي مدينتي الأولى. لم أعرف أيّة مدينة قبلها. بعدها عرفت مدناً كثيرة، وعشت منفيّاً في مدن أخرى: بيروت، عمّان وبراغ. أحببت هذه المدن الثلاث، التي احتضنتني ثماني عشرة سنة هي مدّة إقامتي في المنفى القسريّ، غير أنّ القدس ظلّت مدينتي التي جرّبت فيها الدهشة الأولى، دهشة الاحتكاك بالمكان الفسيح حيث تكثر حركة الناس وتتعدّد المشاهدات.

ثم إنّني ذقت فيها مرارة الحرب، شاهدت الحرب بأمّ عيني. ولم تكن الحرب هي نهاية المطاف، عرفت فيها الحبّ وانبهار القلب بفتنة الجمال. عرفت فيها المزيد من أسرار الحياة، ثم عشت فيها ذلّ الهزيمة، وحينما أُبعدت منها تجرّعتُ مرارة الفراق.

القدس بالنسبة لي هي حاضنة الروح ومهد الطفولة والشباب. لا يمكن أن أتصوّر تجربتي في الحياة دون أن تكون القدس حاضرة فيها تمام الحضور. في سنوات الطفولة شاهدت الناس وهم يتقاطرون من كل أنحاء فلسطين الى القدس، يتجمّعون في ساحات المسجد الأقصى، يردّدون الأغاني الشعبية والدينية، يرقصون ويحتفلون، ثم ينطلقون في موكب مهيب إلى مقام النبي موسى الذي لا يبعد عن القدس سوى كيلومترات عدّة.

 شاهدت في سنوات الطفولة، المصلّين المسيحيين من أبناء القدس ومن غير أبنائها، وهم يجتازون درب الآلام بخطى متّئدة فيما تعلو التراتيل الدينية الشجيّة، وتعبق في الجوّ روائح البخّور.

في المسجد الأقصى، كان إحساسي الأوّل بالمكانة الخاصّة للقدس. وفي كنيسة القيامة كان إحساسي الأوّل بأهميّة التعدّدية، والتسامح والتعايش بين الأديان. وبالقرب من سورها الذي بني أوّل مرّة قبل آلاف السنين، كان إحساسي الأوّل بعراقة المدينة. وكان لي في القدس كتاب أوّل، وفيلم سينمائي أوّل، وحب أوّل، وتظاهرة سياسيّة أولى، واجتماع حزبي ثانٍ (اجتماعي الحزبي الأوّل كان في رام الله، التي لا يقلّ حبّي لها عن حبي للقدس). كانت المدينة تعلّمني بحكم نشأتها وتكوينها، وبحكم تنوّع ثقافتها وعراقة تاريخها، كيف أصبح إنساناً بعيداً من التعصّب والانغلاق.

في شوارعها الممتدّة خارج السور وفي أسواقها المسقوفة، كنت أرى خلقاً كثيرين: أعيان المدينة ورجال الدين فيها، مثقّفيها وتجارها وموظفّيها وعمّالها وحَمّاليها، نساءها بالأزياء التقليدية، أو بالأزياء الحديثة التي ترتديها شابّات متماهيات مع إيقاع  العصر، يتهادين في الأماسي الرائقة، مضفيات على المدينة رونقاً وبهاء. وكنت أرى  أهالي القرى المجاورة للمدينة، نساء ورجالاً، وهم يأتون إلى المدينة لغايات شتّى، ولا يعودون إلى قراهم إلا قبيل المساء.

وثمة نساء ورجال من مختلف البلدان، يجيئون إلى المدينة للسياحة أو للحج. في القدس، تعرّفت إلى المقهى، السينما، المكتبة، النادي الرياضي، المطعم، الفندق، المسجد، الكنيسة، الحزب السياسي، وبعض عادات الشعوب التي يأتي بها رجال ونساء من أماكن نائية. 

هذه المدينة ليست أيّة مدينة، إنّها مدينة من طراز خاصّ. هي مدينتي التي تعلّمت منها، وألهمتني كثيراً ممّا كتبت وما زالت تلهمني. لها المجد والحرية والخلاص.

إبراهيم فرغلي: أحب القاهرة لكني أهرب منها إلى نقائضها

للأسف المدينة التي أحلم بها لا وجود لها. لا مدينة تسعني. كنت أظن بعد زيارة باريس لأول مرة أنني وجدت نفسي أخيرا في المدينة الحلم، ولكنني فوجئت بأن ما تبقى من أثر باريس بعد سنوات في أعماقي هو الحزن، ولا أعرف لماذا.

باريس ظلت في وعيي مدينة حزينة، خاصة في الليل. كل الصور التي كنت أحتفظ بها عنها كمدينة للحياة والملائكة والشياطين اختفت فجأة أمام مشهد ليلي لكاتدرائية نوتردام التي أحسست أنها كيان باك يكبت دموعه ولا أعرف لماذا.

وحتى المدينة التي تعلقت بها في صغري وهي مدينة المنصورة، أو جزيرة الورد كما كان اسمها تاريخيا، والتي ولدت بها وشهدت أهم فترات صباي ومراهقتي ومطلع شبابي، وأهم خبراتي في مقتبل حياتي ككاتب، أصبحت مسخا مشوها، لا علاقة لها بصورتها في صباي حين كانت هادئة جميلة تطل على النيل ونكاد نعرفها شارعا شارعا وحارة حارة، بسبب كثرة تجولنا فيها. المدينة الموجودة الآن على ضفاف النيل لم تعد تمثل لي شيئا.

لكني ربما أرتبط أكثر بأماكن محددة في مدن كثيرة، أحب "منطقة اللسان" في مدينة "رأس البر" الساحلية في مصر، وهو موقع التقاء البحر المتوسط بنهر النيل في أقصى شمال الفرع الأيمن من دلتا النيل، كأكثر مكان رومانسي عرفته في صباي.

أحب أيضا موقع البيت الصيفي للكاتب المسرحي الألماني بريخت في قرية بوكو، على بعد 70 كيلو متر من برلين، قرب الحدود البولندية الألمانية، وأعتبره هذا المكان المطل على بحيرة رائعة الجمال المكان الأجمل في العالم بالنسبة لي.

كما أحب مقاهي أكتب فيها في مدينة الكويت بانتظام. أحب المقاهي ذات النوافذ الزجاجية الواسعة، أيا ما كانت تطل عليه، وارتبط كثيرا بالأماكن التي أكتب فيها، وأظن أنني في كل مدينة ارتحل إليها ولو لأيام محدودة سرعان ما أبحث عن مقهى يناسبني ليكون مكانا لاستقراري وللكتابة لو تيسرت. فعلت ذلك في شتوتجارت، جاكارتا، وسراييفو وسواها.

لكني حين أتأمل المدن التي زرتها على كثرتها، أجدني كنت أبحث بينها على نقيض القاهرة. أو لعلني أدور حول السؤال لأقول إن مدينة المدن بالنسبة لي هي القاهرة. أحببت القاهرة لأنها المدينة الحلم، أو هكذا كانت، ربما تعد القاهرة بالنسبة لي مكانا ملهما ومهما. مدينة العالم، وأظنها المدينة التي أحببت أن أكتشفها، لسنوات، وأسهم عملي بالصحافة في ذلك ايضا، تجولت في أزقة وحواري شعبية، في القاهرة القديمة، وفي أرجاء أخرى واسعة، وتنقلت ساكنا بين حي المنيل وشارع الهرم، قبل الانتقال للجانب الآخر منها بعد زواجي.

المدينة التي علمتني الحياة، وقسوتها في الوقت نفسه. وفيها رأيت كيف تسكن المتناقضات وتتعايش. المدينة التي ترى فيها من وجوه الجمال، ما يفتنك وحين تدير وجهك قد ترى أقبح ما يمكن أن ترى من صور.

العمارة الفاتنة من كل حقب التاريخ، لكن الإهمال قد يجعل منها مجرد ركام من الحجارة المغبرّة. جمال وسط البلد في فترة تألقها قد تجرحه عيون المشردين الذاهلة من أطفال الشوارع ويكون كل منهم كيانا يدل على جرائم المدينة الشاسعة اللانهائية في حق أطفالها الذين تقتلهم العشوائية والفقر والإهمال. 

المدينة التي تحتضنك فتألفها ثم سرعان ما تدرك أن احتضانها لك أحيانا قد يكون قويا لدرجة أنك تشعر بأنها تكاد أن تزهق روحك. كل شيء فيها مباح وممنوع بشكل ما، مدينة من السهل أن تجد فيها الحب، لكنها بقسوتها أيضا قادرة على كسر العلاقات بيسر وسهولة. مدينة تمنحك الأمل، ولكنها بين ليلة وضحاها قادرة على أن تلكمك بضربة يأس قاتل لا شفاء منه. وفيها لمن يرغب أن يرى تاريخ مصر ومتناقضاته حيث تتساكن طبقات اجتماعية متنافرة طبقيا وثقافيا.

لهذا فحين سئلت عن المدينة التي تمنيت العيش بها اخترت مدينة صغيرة وجميلة وأليفة ورهيفة أيضا هي سراييفو، ليس فقط لأنها مدينة صغيرة بسيطة، وشديدة الجمال، ولعلها الأكثر هدوءا بين مدن العالم إضافة لجمعها لتراث الشرق التركي والطابع الأوربي في مزيج نادر. لكن أظن أن سر تعلقي الشديد بها يعود لكونها قادرة على أن تمزج الأعراق الصربية المسيحية والبوشناق المسلمين وسواهم معا في تناغم نادر. قدرتها على جمع التناقضات بهذه البساطة ربما هي سر ولعي بها، ربما لأنها نجحت فيما لم تتمكن منه القاهرة بعد. ولهذا أعرف أن بساطتها الظاهرة خادعة ربما لأن محنتها كانت اكبر كثيرا من كل محنات القاهرة ومآسيها. سراييفو رغم مظاهر التاريخ وأحيانا التعب مما مرت به، يمكنك أن تشعر بلمسة من روح شابة تغمر المدينة، بينما تبدو القاهرة اليوم عجوزا تحتاج الكثير من جرعات إكسير الشباب.

عدنان الصائغ: الكوفة .. لندن

سأتحدث عن مدينتين متناقضتين رسمتا حياتي وكتاباتي، وهزهزتهما معاً! وهما الكوفة ولندن.إذ كيف لشاعرٍ مثلي تأبط منفاه منذ حوالي ربع قرن أن يتوقفَ عند مدينة واحدة، وقد توزَّعته مدنٌ عديدةٌ ومحطات شتات في قطار الشعر المسافر إلى الأبدية.

مدن وأصدقاء ومكتبات وبيوت مرّت به ومرّ بها: الكوفة، بغداد، عَمّان، بيروت، مالمو، لندن.لكن اللتين أحدثتا انعطافاً هاماً هما: الكوفة حيث ولدتُ، ولندن حيثُ أعيشُ وأكتب.

الكوفة؛ مدينة الطفولة والشعر والأحلام الأولى، المدينة الوديعة الغافية على كتف نهر الفرات، ومنها انطلقت اندفاعاتي الأولى إلى بغداد، سحر الليالي الألف وما بعدها، موارٍ شعرية لا يتوقف وثورات لا تتوقف، ثم حقبة الشتات والمنافي: عمّان، فبيروت حتى وصولي الى صقيع السويد، ثم لندن؛ المكتبة الكونية المفتوحة على كلِ شيءٍ ولا شيء.

في الكوفة تفتحت عينايَّ على نهرٍ ومكتبات وغابات نخيل ومواويل تشبه النواح. التهمتُ كثيراً من مكتباتها وعشتُ مع أدبائها وفنانيها وصعاليكها وربطتني علاقة أزلية مع الشاعر على الرماحي الذي أعدمه النظام نهاية السبعينات وهو في أوجّ توهجه. وهكذا انطبعت حياتي إلى الأبد بهذا التمرد وتلك الخسارات.

في لندن وقد أناختْ بي رياح الغربة في أحد أحيائها القديمة عام 2004، ولا أزال. سحرتني بكل ما في الكلمة من معنى، هي ليست مدينة بل متحف كبير لا يتوقف عن ابهارك في كل منعطفِ مشهدٍ أو جملةٍ. صدرت لي بعض الكتب، وربطتني علاقات طيبة مع شعرائها وأدبائها، وشاركتُ في أمسياتها ومهرجاناتها الشعرية المتنوعة، بالإضافة إلى مشاركاتي العربية والدولية هنا وهناك.

عز الدين ميرغني: الخرطوم مدينة في الذاكرة

رغم أنني مولود في قرية بعيدة عن الخرطوم العاصمة، ولكنها كانت حلمي المكاني الأول. كان أقراني يحلمون بالمدن الصغيرة قرب قريتنا، ولكن لأن أبي كان يعمل موظفاً فيها، وكان يحكي لي دائماً عنها.  ما جعلها دائماً في الذاكرة، وفي البال. كان يحضر لي معه غير الهدايا والملابس، كتب ومجلات الأطفال،  وأتصفح وأنا طالب الخلوة القرآنية، الصحف والمجلات المصرية،  فأحببت رائحة الورق وحبر المطابع وأنا صغير.

 كان حلمي أكبر من مدينة عادية،  فيها مكاتب الحكومة وأسواق البيع، ومساكن المواطنين العادية. أقف من بعيد وأنا أتأمل في القطارات الذاهبة إليها،  وأحلم يوماً أن أكون يوماً ما في داخل عربة من عرباتها. كنت أحلم بمدينة الثقافة، رغم أنني في تلك السن لم أكن أميز تلك الكلمة التي كان يرددها والدي كثيراً. وجئتها لأول مرة، بدهشة السائح، وقلب المحب، فبادلتني حباً بحب. فتحت لي ذراعيها،  شاهدت مع أبي أرقي الأفلام العربية والأجنبية،  وأجمل المسرحيات، وعرفت متعة القراءة الحرة بدخولي المكتبات العامة،  وأنا في سن الصبا، وكان ذلك من ما يثير عند البعض العجب والدهشة. والتوفير لشراء متعة القراءة.

وفي الخرطوم نمت عندي موهبة الكتابة، لأكون واحداً من الذين أسمع عنهم وأرى صورهم في الكتب والمجلات. لم تكن الخرطوم منفصلة عن مكان الصبا والطفولة،  هي تتقاسم مع قريتي، جمال الطبيعة،  والوقوع في أحضان الماء. فقريتي بخلائها وفضائها الممتد، علمتني فن التقاط اللحظة الجميلة،  ووجدت في الخرطوم، تشابه المكان في التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق، في منظر رائع وبديع، ويقال بأنها من أجمل المدن في عصرية الشتاء حيث السماء الصافية والشمس الصفراء غير اللاذعة. لقد سكنت بداخلي الخرطوم لأنها شكلت وجداني الثقافي، وملأتني ثقافة ومعرفة، ولا زالت تفعل ذلك وستفعل .

ناصر الريماوي: الزرقاء مدينتي الملهمة

الزرقاء، حيث الأزقة المنسية، تسندها البيوت الصغيرة، المشرعة بتلك الفسحات السماوية، والمتلاصقة على الجانبين، طرقات ضيّقة، ملتوية ومتربة، تختلط فيها روائح الطبخ المختلفة، عند الظهيرة، وتتداخل فيها الأصوات، تلك كانت أولى مفرداتنا المميزة والتي علقت في اذهاننا حتى يومنا هذا.

كان يروق لنا نفض الأتربة عن أجسادنا المعفرة آخر النهار، كصبية صغار، كنّا أطيافاً تستقبل الحواكير القريبة، نفلت مع طلعة الشمس لنعود بعد أن يهدّنا التعب اللذيذ نركن لبسطات الدكاكين المرصوصة على أرصفة الشوارع الضيقة، المحاذية للحي.

ما الذي يعطّر أيامنا اليوم، غير اجتذاب خواطر نزحت فأمتلأ بها الجدار، خربشات الطباشير على جدران الأزقة، ظلّت حتى يومنا هذا كالنقش، وثغر صبيّه رحلت ذات يوم بعيدا، أوصدت في وجوهنا رحابة النافذة الوحيدة المطلة على قتامة الزقاق، أوصدتها لمرة أخيرة ورحلت. تلك الصبية لا زلت اذكرها جيدا، استردت من كل واحد منّا ملامح وجهها وابتساماتها التي كانت تشعل الحيّ، انتزعتها بقسوة من بين تلك الخربشات ثم مضت.

 بعد عشرين عاما على رحيلي عن ذلك الحيّ، كنت أعرّج للمرة الاولى كي أرى الجدار، بقي النقش بينما رحلت هي، كلما مررت من هناك أعرّج بعد تردد طويل، لتلقاني النافذة بالصدأ، عشرون عاماً والشمس تطلع، تحملق ثم تغيب، والنافذة تلعق ما خلفه الصخب، و"الدكنجي" العابس تكوّم في حجر كرسيه أكثر، لم يعرفني هو في الوقت الذي بكى فيه الزقاق.

تسكنني الأزقة بكل تلك التفاصيل الدقيقة، الدكاكين الصغيرة المركونة على رصيف الشارع الفرعي أيضاً، أتوق إلى ذلك الشارع الترابي قبل إسفلت البلدية، والذي محى آثار اقدامنا هناك، وللأبد.

ميدان الحاووز الذي انتهى معلما من معالم المدينة، كان فسحة جميلة ومتاحة للتنزه في غياب الحدائق العامة، أو حتى للتسكع حوله. المدرسة الابتدائية القريبة، وباعة الحلوى والفطائر عند بوابتها الحديدية. المخبز الوحيد في الحيّ، مخبز " أبو علي" وفرش العجين في تلك الصباحات الباردة، فوق رؤوسنا.

نهر الزرقاء، على أطراف المدينة الصحراوية، أو "السّيل" وبعض عيون الماء التي تصب فيه، وتلك الرحلات الأسبوعية أو الموسمية، نحو مسطحاته الخضراء القائمة على جانبيه، وتلك البيوت الحجرية العتيقة، الموزعة على ضفتيه، لسكّان المدينة الأوائل، وظلالها الغامضة وهي تسكن أعماق الذاكرة الحيّة إلى اليوم، بيوت تهدّم بعضها، بعد أن هجرها أصحابها مخلفين وراءهم كل وقائعهم اليومية وشغف الذكريات، وحتى بعضا من أرواحهم، بقيت رهنا للشمس فوق شرفاتها.

رجاء بكرية: حيفا رائحة عشق عتيق مُضمخٍ بتفاصيل وجوهٍ وكلمات

المدن كالكتب تماما لا يمكن أن تنسى أوّل مرّة عشت رائحتها. ولا آخر مرّة شككت على غلافها دبّوس حيرتك. وللمدن في حياتي ذاكرة، بعضها يمشي على جسدي والبعض الآخر يعيشُ تفاصيلهُ حُرّا في دواليبِ رأسي. لكنّ أشْوَقَ المدن هي الّتي تعيشُ فيكَ كأيّ شامة غريبة تكبر في مكان لا تتوقّعه من جسدك. وحيفا ظلّت رائحة عشق عتيق مُضمّخٍ بتفاصيل وجوهٍ وكلمات، تعيشُ في كلّ زاوية منّي. وحتّى الجوارير المقفلة يمكنكَ إذا تجرأت على فتحها، أن تعثرَ على رائحة البحر مستشريا في خشبها.

والغريب أنّها تختلف في ساعات اليوم، وفي كلّ مرّة ستصعد فوق جسرِ كرملِها ستحسُّ ملابسك مبلّلة برغوة بحر يبعد عنك كيلومترات. كيف يحدث ذلك؟ لا أعرف، لكنّي أذكر أّني دائما أعود إلى شقّتي مبلّلة بالموج، ولا يهمّ في أيّ مواقعها أكون. تحت أو فوق الجسر. أمام أو بعد الموج. قرب أو خلف الرّمل. ولقاءاتي فيها ليليّة. يوميّا تقريبا أساهرُ البحر، لأنّها مدينة لا تحبّ النّهار صيفا، لكنّ للشّتاء حكايا الجمر في شوارعها وأرصفتها.

أحبّ فيها ما لم يرَهُ غيري في زجاج نوافذهم، وأكره المرّة الوحيدة الّتي وقفتُ فوق جِسرِها مع رجل، وسبّ الشّتاء لأنّه أغرقَ قبَّةَ مِعطَفِهِ بالبَرَد، أذكر أنّي تمنّيتُ يومَها أن أدفعه إلى الشّارع من عُلوّ، ومن يومها لا أرافقُ رجُلا إلى جسورِها. وحيفا برأيي مدينة تنجح في كلّ خطوة عِشق أن ترسُمَ رواية، ورواياتها شتائيّة بحتة تَعدُ فيها الشّخوصُ سماءها بالسّحر، وتُعِدُّ أحذيتها للمغامرة. لأجل ما لم أعشهُ فيها بعد أحبّها.

كاظم خنجر: ما لا يمكن لي

لا يمكن لي أن أسمي المعسكر الذي أعيش فيه (مدينة)، فالصبات الإسمنتية التي تحيط دوائر الدولة تقف على مد البصر. الأسلاك الشائكة التي تستلقي على الأرصفة وفوق الجدران لا حد لنومها . إنّ صافرات الاسعاف وسيارات الشرطة التي لا تصمت يمكنك عبرها فقط أن تفهم معنى سيل الخسارة الذي يجرف. أسماء الشوارع التي تتبدل بحسب ما يستجد من موتى. الأماكن التي تميزت بسبب انفجار سيارة أو حزام أو عبوة. تلال النفايات التي تتزاوج وتنجب دون رقيب .

لا شيء هنا يدل على الحب أو القانون أو السلام، فكل شيء قائم على الموت والكراهية والحقد وأعني البشر وشكل حياتهم، فعندما تصعد إلى أي باص أو تجلس في مقهى أو تأكل في مطعم تجد الشر في العيون، والسُم في الألسن. هكذا شكل من الحياة لا يلهمك سوى القبح والبغض، أو هو تدريب على الجرائم، واستعداد لا ينتهي .

لي حد معين من الأصدقاء لا أتجاوزه. نتجول  في غالب الوقت أنا ومازن المعموري وعلي ذرب ومحمد كريم في الأزقة والشوارع وحواف الأرياف، نكرر مرورنا على الأماكن التي حدثت فيها المجازر، نقف عليها طويلاً حتى يخرج الدم من أقدامنا، لنعود إلى مكتبة خالد شاطي ونمسحه بالصراخ .

لا يمكن لي أن أسمي هذا المعسكر.. بابل

لا يمكن لي أن أسمي هذه المقبرة الواسعة .. بابل

لا يمكن لي أن أسمي هذه الصحراء الصغيرة.. بابل

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024