"ضربة لازم"
إيهاب الريماوي ورامي سمارة
حتماً، ستضيق اليد على حجم قلم فيتسع الحلم، وفي خمس سنوات، اتسعت اليد لرفش فضاق الحلم.
ظنّ أمير سبيتان أن الدرب لا محال ممهد، تسير به نحو الأمل: "إعلامي يمتلك ما يمكن أن يمتلك من مهارات وفنون، يكتب ويصوّر وينتج ويخرج"، كل ذلك اتسع له جراب الحلم.
لم يعد يحصي ابن قرية بيت دقو شمال غرب القدس، كم ورشة وطأها في الطريق نحو حلمه، ولا يكترث بحصر الأماكن التي مر بها إلى هناك. هو يعلم تماماً كم مهنة أتقن دون أن ينتهي الدرب وقبل أن يصل.
حدّ الحرفنة، يجيد أمير الطلاء، والقصارة، وبناء الطوب، ودق الحجر، والطوبار، والبناء، لا يكف عن صعود السلالم لوضع حجر هناك، أو لتمرير فرشاته على ذلك الجدار، دون أن يجد عتبة يسمو بها إلى مجده.
عمل أمير داخل الخط وخارجه، وكان شاهداً على قصص وحكايات ونوادر وأحداث ومطاردات من واقعه الذي يعيشه كل يوم في الورش.
خطط أن يرسم تجربته في كتاب يحكي فيه عما عايشه وشاهده مع رفاقه العمال في مدينة يافا، "هناك كثير من القصص يجب أن تروى، منهم من سقط فكسرت ساقه، ومنهم من أُسقط فكسر وطنه، ومنهم من غرق في الوحل، ومنهم من غب منه، ومنهم من عاش أسيراً لمكان العمل أشهراً طويلة حتى يتوارى عن أعين عناصر الشرطة الإسرائيلية. وغيرها الكثير من الحكايات".
ودّ أن يؤرخ في رواية أحوال عمال الداخل، كان يعتقد أنها المرحلة الأقسى التي كان فصلاً منها.
ذات مرة اعتقل أمير بعد أن عبر الخط مخالفاً، ضُبطت بحوزته "بطاقة هوية مزورة"، فزج به في معتقلات أسدود، وبعد أربعين يوماً، أفرج عنه بكفالة ووقع تعهداً بعدم العودة للعمل في الداخل مجدداً إلا بـ"صفة قانونية". أصبح يعلم أن صفحته "الملطخة" لن تمكّنه من العودة للعمل بأي صفة كانت، فلا مشغّل سيخاطر بتشغيله ولا تصريح سيمنح له.
في الخارج، العمل أصبح شحيحاً حتى في مجالات يترفع عنها حملة الشهادات الأكاديمية، كان أمير يشتغل في إحدى الورش لأسبوع يعقبه شهر أو اثنان يبحث فيهما عن عمل.
ورغم أن مجال الإعلام لم يفتح ذراعيه لأمير بعد؛ إلا أنه ظل وفيا له، يعود من العمل يقرأ ويطالع ويكتب. اعتاد أن يكتب نصوصاً أدبية وإعلامية، ينشرها على صفحته في موقع "فيسبوك".
ظروف العمل والعودة المتأخرة والتعب، كلّها عوامل تحد من وصال الكتابة، يصل البيت منهكاً، قواه تعجز أحياناً عن حمله على حمل كتاب أو قلم، "أحتاج إلى ساعتين لصناعة نص محكم، حين أعود من عملي عند حلول المساء، لا أكون غالباً قد ادخرت جهداً لممارسة طقوس الكتابة، ولكن لا أدع فترة تمر دون أن أدوّن نصاً وأنشره، ويدفعني لذلك إعجاب الناس بما أكتب وتفاعلهم معه".
قلم أمير لم يجفّ يوماً، يفخر باستمراره في العمل بالورش رغم "حالة الانفصام" التي تسببها له، إلا أن حادثة استشهاد ابن عمته عنان أبو حبسة التي كانت بمثابة الصدمة؛ أسالت فيه حبراً غزيراً نمت فيه بذرة الإبداع.
حين علم بنبأ استشهاد عنان؛ وضع تعليقاً على صفحته في فيسبوك: "ألبستني تاج الوقار يا شهيد"، أعلى صورة لعنان، ثم تبعه بمقتطفات عن مناقب الشهيد الذي كان بالنسبة إليه "صديق أقرب من حبل الوريد".
راح يكتب قصة الشهيد في رواية، حيث كانت التفاصيل التي عاشاها منذ الصغر وكان بإمكانه رصدها وتوثيقها، كثيرة، وكذلك الأحداث التي تلت الاستشهاد واحتجاز الجثمان، وصولاً إلى تفجير بيت ذوي الشهيد في مخيم قلنديا.
"ذقت مع عنان حلاوة الصبا في الماضي، وعشت مرارة الموت في الحاضر، كنت شاهداً على أحداث مرعبة في المخيم، شكّلت الاقتحامات المتكررة وارتقاء الشهيد تلو الشهيد، الحافز الأكبر في تغذية فصول الرواية التي منحتها اسم "موت العنان".
لم ينته أمير من سرد الحكاية بعد والرواية التي لم ترَ النور؛ كتبها بلغة يخاطب فيها الموتى، فيها يحاور عنان بأسلوب فلسفي دون أن يتحيز لأي دين أو معتقد، ويروي قصة إنسان ذهب في طريق الغياب بعد أن كان في النور.
يعتزم أمير سبيتان أن يطلق روايته في الرابع والعشرين من كانون أول/ ديسمبر المقبل، في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد عنان أبو حبسة، برصاص جيش الاحتلال في باب الخليل بمدينة القدس المحتلة، برفقة الشهيد عيسى عساف.
"هناك الكثير من القصص حدثت في البيوت، فأنت تخون ذاتك إن لم تخرجها، فأنا لست مربوطاً بالإعلام، وإذا أتيحت الفرصة لي أخرجها من خلال منبر إعلامي، وإذا لم تتح سأخرجها من غرفة نومي" يقول أمير.