سينما غزة .. تاريخ يروي الحكاية
رام الله- وفا- نداء عوينة- المقولة الأساسية في السينما هي الخديعة، هي كذبة نريد أن نصدقها، وفانتازيا تفوق الواقع. في غزة، هناك حالة كارثية علينا أن نراها، كل ما هو طبيعي يخرج عن الطبيعة في غزة، ليكون الواقع فوق الخيال، والحقيقة فوق الفانتازيا، فوق الفن كله..
السينما في غزة حكاية، ليست حكاية خليل المزين فحسب، بل حكاية مخطط لمسح ثقافة مجتمع بأكمله واستبداله بثقافة أخرى، خارج الثقافة الفلسطينية؛ إحلال للقمع والرقابة محلّ الإبداع، مخطط للهيمنة على قطاع غزة معرفيا وقيميا قبل أن يكون سياسيا.
يقول المخرج خليل المزين: "كان في القطاع أكثر من عشر دور عرض للسينما، فقد افتتحت سينما السامر عام 1944 واستورد لها رشاد الشوا المعدات وفصّل قماش ستائرها وشاشاتها في المجدل، وكانت تقوم باستيراد الأفلام أساسا من مصر، ومع أن فلسطين عرفت الأفلام السينمائية في القدس عام 1908، لم يشهد الوطن حراكا كالذي كان في غزة".
بعد النكبة عام 1948 بدأت الأونروا بتنفيذ مشروع ثقافي للاجئين، يعتمد على عرض أفلام سينمائية على مدار الأسبوع في كافة مخيمات قطاع غزة، تتخللها إعلانات إرشادية عن الرعاية الصحية الأولية والعناية بالأطفال. كان المشاهدون يجلسون على الأرض وينقسمون إلى فرق تشجع أبطال الفيلم وتهلل لهم فتقوم الخلافات بين الحضور حول موضوع الفيلم وأحداثه، هذه العروض أعطت حياة لقطاع غزة، وفتحت أفقا لازدهار حركة السينما فيها.
مع بداية الخمسينيات، بدأت مجموعة من دور السينما في الظهور، مثل سينما السامر وسينما عامر وسينما النهضة وسينما الشاطئ وفيما بعد سينما السلام وسينما الجلاء وسينما صابرين وسينما الحرية وسينما النصر، لتصل إلى أكثر من عشر دور عرض مع نهاية السبعينيات.
ولد خليل المزين في أكتوبر 1963، في مخيم الشابورة في رفح جنوب قطاع غزة لأبوين لاجئين من قرية القبيبة، في لواء اللد جنوب شرق يافا، كان ولدا نحيفا كمسمار على حد قوله، يرتدي بنطالا بحمالات، يذهب إلى المدرسة بحقيبة من قماش، يرجع إلى البيت من دونها معظم الوقت، ويبدّل دفاتره بأقراص "الجبجب" من عند أشهر بائعات الترمس في المخيم "أم الحبيب". دائم الشرود، لا يحب المدرسة، ويهرب منها كلما أتيحت له الفرصة. "كنت أكره المدرسة، لما يحكوا عن العثمانيين كيف ييجوا على الخيل كنت أنسى الدرس وأظل واقف عند المشهد...".
في مزج كافكائي بين الفانتازيا والواقع، والقلق الوجودي والذنب والاغتراب والعبثية، يسرد خليل المزين ذاكرته في غزة، وذكرياته مع الهروب من المدرسة ليذهب سرا إلى السينما.
"عرفتها وأنا طفل صغير؛ لما دخلت السينما أول مرة بحياتي، كان فيلم لهاني شاكر اسمه هذا أحبه وهذا أريده. صرت أجمع الحديد ومسامير من منطقة الرابش الانجليزي على الحدود بين رفح ومصر، وأعدّلها وأبيعها لصاحب حانوت في المخيم يدعى "شومان". كنت أجمع ثمن التذكرة عشان أشوف الفيلم وأرجع على المخيم. كنت أفكّر إنه رفح هي الكون، وفي السينما اكتشفت انه في اشي بيصير حوالينا واحنا مش داريين. صرت مولَع جدا بالسينما، وصرت أحفظ جداول عرض الأفلام ومواعيدها، ولما كان يروح عليّ فيلم، كنت احسها مصيبة وقعت عَلى راسي".
مع ازدياد الحراك وازدياد إقبال الجمهور في غزة على السينمات، اشتدت المنافسة بين دور السينما، وأصبحت تتسابق على عرض الأفلام الجديدة، فتنوعت الأفلام وأصبحت سينما السامر هي صاحبة الأفلام القديمة المستهلكة، وسينما النصر هي صاحبة الأفلام الرومانسية، وسينما الجلاء لأفلام الحركة والعنف والفانتازيا، حتى عام 1967، وكانت الأفلام تأتي أسبوعيا بالقطار. ثم أقفل رشاد الشوا سينما السامر عام 1969 وحول المبنى إلى منشأة لترخيص المركبات، ما زالت تعرف إلى اليوم بترخيص السامر.
عام 1967، كانت الهزيمة العربية أمام الاحتلال الإسرائيلي، وجد الفلسطينيون أنفسهم وحيدين أمام الاحتلال فبرزت حركة المقاومة وظهر الفدائيون في القطاع، وعلى رأسهم جيفارا غزة (محمد الأسود)، في الوقت ذاته، بدأ الشباب بالذهاب للعمل في المدن الكبرى في أراضي 1948، ازدهر الاقتصاد، وبدأ الشباب بتبني سلوكيات وأفكار جديدة، أصبح هناك صراع بين السلوكيات والأفكار الجديدة والأيديولوجيا القديمة، إذ بدأت الجماعات الإسلامية الراديكالية بالنشوء ووجدت حاضنتها في المساجد، وبدأت بالانتشار في المجتمع المحلي، مشكلة وعيا موازيا للفكر اليساري والعلماني الذي تسيطر عليه الأفكار الشيوعية تحديدا.
يقول المزين: "بالنسبة لنا كانت السينما هي المتنفس الوحيد، لم يكن هناك تلفزيون، كان هناك راديو ترانزستور. كان هناك تلفاز واحد في الحارة في دار أبو خضر، وكانت الحارة تجتمع عندهم لمشاهدة فيلم يوم الجمعة. اشترى ابي تلفزيونا بعد عام 1973 ولم أحبه، لم يكن واضحا ولم يكن يعرض أفلاما بما يكفي".
في بداية السبعينيات، في أوج المقاومة الفلسطينية، منع محمد الأسود (جيفارا غزة) عام 1970 الشباب من العمل داخل أراضي 1948، فتدهور الاقتصاد، فيما اجتهد شارون لسحق المقاومة، وبعد استشهاد جيفارا غزة عام 1973، عاد العمال إلى مناطق 1948، ونشط الاقتصاد وعادت الحركة إلى القطاع بما في ذلك الإقبال على العروض السينمائية، فتنوعت الأفلام وتبدلت الوجوه وأنشئت المزيد من دور السينما ليصل عددها إلى عشر.
ويضيف: ""في منتصف السبعينيات كان المد الإسلامي في مصر قد توسع وأصبح تيارا قويا، هنا بدأت حوادث العنف والاعتداء على القوميين، ومن ضمنهم الفلسطينيون في القاهرة، ثم انتقلت العدوى إلى قطاع غزة، وفي 1981 تم إحراق مبنى الهلال الأحمر، وبدأ التحريض على التيار الشيوعي واليساري والعلماني في القطاع، أصبحت هناك دعوات من التيارات الإسلامية ضد دور السينما تحديدا وبشكل واضح، كانت الجماعات الدينية تطوِّر نشاطاتها الدعوية وظهرت التصرفات العنيفة كالهجوم على دور السينما".
في فيلم غزة 36 ملم، الذي أخرجه المزين عام 2013 يقول مصطفى الصواف، القيادي في حماس: "نعتقد أن عملية التحذير لأولياء الأمور مما يعرض في السينمات كانت هي هدف الدعاة في فترة السبعينيات، وليس دور السينما، إننا على يقين أن السينما أداة من أدوات المعرفة والتأريخ والثقافة، لذلك لم يكن الهدف هو دور السينما، إنما ما يعرض داخل هذه القاعات من الأفلام التي تحتوي على بعض اللقطات غير المتوافقة مع الشريعة الإسلامية. وبناء عليه كان هناك التهديد. كان الهدف منها هو العودة إلى الدين الإسلامي وبداية الصحوة الإسلامية".
وعن ذلك، يقول علاء زهارنة، مدير سينما النصر، وأبو حرب مدير سينما السلام، إنه لم تكن هناك أية لقطات مخلة بالقيم المجتمعية الفلسطينية، "كنا نتفرج على الأفلام ونحذف كافة اللقطات. كانت أفلامنا منتقاة صافية نقية توصل الحضارة والثقافة المحيطة بنا للشعب الفلسطيني".
في الفيلم نفسه، يقول الروائي د. خضر محجز: "مع بداية الثمانينيات قويت الجماعات الإسلامية وتحديدا الإخوان المسلمون، ووضعوا أقدامهم على أرض صلبة بالسيطرة على الجامعة الإسلامية، فقاموا بتهميش مجمل التيارات العلمانية والتحريض على كل ما يراه الإسلاميون عيبا وحراما وفسادا، وعلى رأس ذلك السينما... ظهر عدد من الشيوخ الإسلاميين المتطرفين سواء داخل جماعة الإخوان المسلمين أو التيارات الإسلامية الرديفة السلفية ينادون بحرق "دور العهر".
لا يحدث هذا التغيير في يوم وليلة، ولا تمرّ أفعال كهذه مرور الكرام إلا نتيجة أعوام من التحريض. كانت الثقافة الفلسطينية كلها تتعرض للهجوم، وكان الهدف هو حرف النضال الوطني الفلسطيني عن مواجهة الاحتلال وتحويله إلى أجندات اجتماعية تحمل طابعا إسلاميا. تعرض كل ما له قيمة وطنية أو ثقافية إلى هجمة من هذه الجماعات، مثل العلم الفلسطيني وتمثال الجندي المجهول ودور السينما والمقاهي، وأصبح ينظر إليها كأماكن تسيء للقيم الإسلامية. تم تغيير كلمات الأغاني الوطنية إلى محتويات إسلامية، وتغيير الشعارات الوطنية إلى إسلامية. كانت عملية استبدال وإحلال تام...
يعرض فيلم غزة 36 ملم مشهدا لأحد شيوخ الدعوة يقول فيه: "تم بالاستعانة بالله إغلاق دار السينما (سينما الحرية في خان يونس) وتحويلها إلى دار للكتاب والسنة بسبب ما فيها من منكرات".
كانت الجماعة الإسلامية عراب هذا التغيير، كل شيء تغير، كوكب الشرق صارت كوكب الشر، عبد الحليم في النار، وكل رموز المرحلة تعرضت للشتم، حتى جمال عبد الناصر الذي كان الزعيم الأوحد في قطاع غزة.
في منتصف الثمانينيات أصبح العنف سيد الحال؛ كان التقدميون والمتنورون يتعرضون لاعتداءات ومحاولات اغتيال وقمع وإيذاء جدي. أصبحت معركة داخل المعركة، وأصبح الشعار هو: دعني أدخل به الجنة. أصبح الفن تهمة خطيرة يحاسب عليها التجمع الإسلامي. حصلت الجماعات الإسلامية على مباركة الاحتلال الإسرائيلي عندما وجهت الجماعات الإسلامية هجومها ونيرانها بمواجهة المجتمع الفلسطيني ودور عرض السينما والمقاهي، والهجوم العنيف على الشخصيات الوطنية التي تحمل فكرا تنويريا وتوجهات ثقافية وفنية التي ضربت وحرقت وتعرضت لمحاولات اغتيال في قطاع غزة.
شاحنة إسرائيلية دهست مجموعة من العمّال الفلسطينيّين، وقتلت أربعة منهم على حاجز إيريز شمال القطاع، شهد قطاع غزة أسمى آيات المقاومة فيما عرف باسم الانتفاضة الأولى، فقدم من الشهداء والتضحيات ما لا يقدر بثمن. وبالنسبة لمخيم الشابورة تحديدا، فقد فرض من التجول لمدة 299 يوما خلال عام واحد، بين 1 نيسان 1988 و31 آذار 1989. لم يستطع السكان الخروج إلا في 66 يوما متفرقة من السنة، وكذلك الأمر في بقية مناطق القطاع وإن كان بنسبة أخف قليلا.
يقول المزين: "في غزة، كنا نرتب نهارنا، على وقت التطبيش، نحدد مواعيد في يومنا نروح نضرب احجار على الجيش. بس التسكير، ومنع التجول والشهدا خلتنا نبطل نقدر نركز بالفن ولا بالسينما، لم يعد أحد يهتم بالفن لأنه لم تعد هناك المساحة الكافية له".
التحق المزين بدراسة فن التصوير في القدس، ودرس علم النفس التطوري في جامعة القدس المفتوحة، ثم انسحب من الدراسة للعمل، وفي عام 1992، غادر خليل إلى روسيا لدراسة الإخراج السينمائي في أكاديمية الثقافة في مدينة سانت بيترسبورج، وخلال دراسته أخرج فيلمه الأول ميلاد لوحة.
ويضيف: "بعد الثانوية العامة كان جميع اخوتي يدرسون في الخارج، اضطررت للعمل في الداخل، وجمعت القليل من المال. في الثمانينيات التحقت بجامعة القدس المفتوحة، ثم التحقت بمعهد السينما في سانت بيترسبورج".
أعادت السلطة الوطنية الفلسطينية فتح سينما النصر عام 1994، ليقوم الإسلاميون بحرقها عام 1995، ففي تشرين الثاني عام 1994، حصلت اشتباكات بين المجموعات الإسلامية وقوات الأمن الفلسطيني، وردا على ذلك، ثارت المجموعات الإسلامية وقامت بحرق ما تبقى من دور السينما في القطاع، إضافة إلى حرق مقر سينما الجلاء القديم، ومحلات تأجير أشرطة الفيديو، وفي بداية عام 1995. لم يتبقَّ سوى أنقاض سينما عامر وسينما النصر.
عاد خليل المزين إلى غزة عام 1997، "بعد العودة، عملت في عدة مؤسسات واستطعت أن أفعل شيئا ما يعبر عني... اصطدمت بالعديد من الحقائق بس شوي شوي مشيت معي... بقيت فكرة إنشاء أكاديمية للسينما أو مهرجان سينمائي ضخم في رأسي".
عام 2006، سيطرت حماس على غزة عبر انقلاب عسكري، وازدادت الهيمنة والقمع للحركة الثقافية؛ بل لأي حركة مهما كانت. كان هذا استكمالا للمخطط الذي بدأ دعويا في السبعينيات، وتحول إلى عنف في الثمانينيات ثم أصبح القمع ممنهجا، بالاستيلاء على قطاع غزة وفرض بدائل ثقافية ذات أجندات إسلامية تشمل تغيير كلمات الأغاني الوطنية، وتغيير الشعارات الوطنية الفلسطينية واستبدالها بكل ما هو إسلامي؛ في محاولة لمسح كامل للموروث الثقافي الفلسطيني وإحلال ثقافة جديدة بديلة له. بدأ هذا بتربية الصغار في المساجد، تحت مقولة: هؤلاء من سيحكم القطاع عندما يكبرون.
عام 2007 قام المزين بإخراج برنامج وثائقي بعنوان: "غزة سديروت"، يتتبع فيه الحياة اليومية لست شخصيات تعيش في قطاع غزة في ظروف الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وفي عام 2007، أخرج المزين برنامجا وثائقيا "عابرون على جلد غزة" لقناة الجزيرة، ثم "رسل الحقيقة"، تلاه "جيفارا غزة" عام 2009، وحاز فيلم جيفارا غزة على جائزة أفضل تصوير سينمائي في بيروت.
عام 2012، حصد المزين جائزة أفضل فيلم لحقوق الإنسان عن فيلم "مونولوجات غزة" في مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية. وفي 2012 أيضا أخرج أول فيلم كرتوني ثلاثي الأبعاد فلسطينيا، والثاني عربيا، بعنوان "خيال الحقل".
عام 2010 أخرج المزين فيلمه الروائي الثاني ماشو ماتوك (حاجة حلوة)؛ منع عرض الفيلم في غزة بحجة أن هناك مشهدا مدته ثوانٍ لفتاة تمشي بتمايل أمام الجنود، فينظرون إليها. وعام 2013 منع فيلم 36 ملم بحجة التحريض على الإخوان المسلمين.
يقول المزين: "فكرة المنع فكرة تعيسة وبائسة. نحن نعمل الأشياء كما نحبها، نعملها كما يجب، نفكر بالقصة وبالسيناريو، نحن لا نفكر في المنع، وعندما يمنع العمل يكون فعل المنع بائسا لأنها لا تودي إلى نتيجة ولا تفعل إلا أن تسلط الضوء على العمل وتزيد من شهرته واهتمام الجمهور به."
إبان الحرب على غزة عام 2014، كان المزين يقوم بتصوير فيلمه الروائي الجديد حين دمّر القصف الإسرائيلي برج الباشا، حيث كانت شركة لاما فيلم ـ الشركة الخاصة التي أسسها المزين عام 2011، والتي فيها مواقع تصوير الفيلم ومواده جميعها ـ فاضطر طاقم العمل لإعادة تصوير معظم المشاهد وكان المشهد الأخير على أنقاض البرج.
خرج فيلم "سارة 2014" إلى النور عام 2015، وحاز على الجائزة الأولى للأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي وعرض في مهرجان دبي السينمائي، وحصل على جائزة أفضل تصوير في مهرجان دكا السينمائي لكنه، رغم ذلك منع من العرض في غزة.
وعن مهرجان السجادة الحمراء، يقول المزين: "بالنسبة للمهرجان في الشجاعية عام 2015 كانت الفكرة أن نعمل مهرجانا في العراء، وكان من الجيد أن نسلط الضوء على قضية معينة. الشجاعية انتهكت فيها حقوق الإنسان والمهرجان كان مهرجان أفلام حقوق الإنسان، خطر في بالي أن أعمل عملا تركيبيا... أحضرنا سجادة حمراء بين الركام طولها 120 مترا في شارع على جانبيه ركام، وكان هناك جمع بين القبح والجمال، وعندما قصصنا الشريط كان من القماش الممزق الموجود في الركام، والذي قص الشريط رجل استشهد اخوته الأحد عشر. وضعنا شاشة ضخمة جدا وكان هناك 2000 مقعد للحضور، لكن عدد الحضور وصل إلى 12000 شخص."
ويضيف: "بعد نجاح العام الماضي كنا نريد عمل المهرجان في المينا، واتفقنا مع الفنان محمد عساف ليفتتح المهرجان، وكان شعار المهرجان "نريد أن نتنفس"؛ ليس فقط من الحصار والاحتلال بل من حماس أيضا، نريد حرية تعبير... قدمنا كتابا لوزارة الثقافة فأرسلوه للأمن. خلال فترة التحضير للمهرجان، استدعاني الأمن وأنا في ساحة الجندي المجهول. كنت برفقة ابنتي يارا ذات السبع سنوات، فتوقفت مركبة عسكرية واصطحبتنا أنا وهي إلى مدينة عرفات للشرطة. هناك، دار جدل حول إقامة المهرجان في المينا. قيل لي: إننا لسنا ضد المهرجان لكن مشكلتنا في تجمع العدد الهائل من الناس وفي الاختلاط. وأخذنا موعدا لثاني يوم، وطلبوا أن يشاهدوا جميع الأفلام ليتيحوا لنا عرضها. تدخلت وزارة الثقافة في تلك الليلة وطلبت مني إحضار الأفلام إلى الوزارة اخترنا 55 فيلما وأرسلناها للوزارة التي بدأت بالعمل الرقابي على الأفلام وإعطاء الأوامر حول ما يمكن عرضه وما يجب قصه من الأفلام."
ويتابع: "ورفضوا أن نعمل بالمينا ومنعوا نشاطات المهرجان في الشوارع، ولم يسمحوا لنا بالعمل إلا في قاعة مركز رشاد الشوا التي لم تتسع إلا لـ1500 مقعد. طلبوا مني التوقيع على تعهد لفصل المرأة عن الرجل في الصالة. كان هناك تحفظ على أفلام كثيرة من ضمنها فيلم مي المصري وعرضته على مسؤوليتي الشخصية."
"يوم الافتتاح، تحدثت للجمهور: أنا آسف أنني اعتقلتكم في الصالة لأستطيع التحكم بكم وتحدثت عن حماس وممارساتها ومطالبتها، وبرغم كل شيء نجح مهرجان السجادة الحمراء، قدم قليلا من الفرح والفن لغزة، وأعاد لها القليل من حقها في النجاة".
يفتح خليل المزين أفقا معرفيا جديدا حول تاريخ السينما في فلسطين، ليس فقط على مستوى إنتاج الأفلام السينمائية، بل على مستوى لوجستيات السينما، من المباني حتى القماش الذي يغطي الشاشة التي تعرض الأفلام عليها، وإن كان الكثيرون قد أغفلوا هذا التاريخ بسبب وجود قضايا يومية "أهم" من وجهة نظرهم، إلا أن تثبيت الوجود الفني والنشاط السينمائي خلال مراحل التاريخ الفلسطيني، يقدم ردا واضحا وصلبا على وجود الشعب الفلسطيني بشكل متجذر في هذه البلاد، انطلاقا من أن فن السينما بالذات لا يحدث في بلد إلا بعد توفر بقية شروط الحياة، وبالتالي فوجود السينما بشكل أساسي يعطي معلومة من المستحيل دحضها عن الوجود الفلسطيني.
يقوم الفن بالنضال في منطقة لا تستطيع حماس الرد عليها، لا تملك إمكانية الرد عليها أصلا، وهذه مشكلتهم مع الثقافة ومع الفن ومع أي فعل تنويري، وهذا هو الفعل الأساسي الذي يقوم به خليل والآخرون، لأن أمامهم مسؤولية كبيرة، عندما ينتظرهم هذا العدد الهائل من الناس الذين يستحقون الحياة، وهم ليسوا موتى ولا مخدرين.