"جسر الجواسيس" يتخطى ألغام الواقع لصالح الرواية الأميركية
عمار جمهور
يروي فيلم Bridge of Spies (جسر الجواسيس) قصة محام أميركي تولى الدفاع عن جاسوس من أصل انجليزي لصالح الاتحاد السوفييتي، بعد سجنه في الولايات المتحدة. يقوم الممثل "توم هانكس" بدور المحامي جيمس دونوفان، الذي يجد نفسه شخصية مشهورة أواسط فترة الحرب الباردة، في ظل أجواء سياسية وشعبية مشحونة بالدعاية الإعلامية الاميركية تجاه الاتحاد السوفييتي من خلال رسم صورة شيطانية للقوة العظمى الشيوعية في وعي الجمهور الاميركي وإدراكه، عبر مساعيه لدمار العالم مهدداً باستخدام الأسلحة غير التقليدية.
والفيلم من إخراج ستيفن سبيلبرغ، وإضافة إلى هانكس، يشاركه البطولة مارك رايلانس وايمي رايان وألن ألدا، وصدر 15 تشرين الأول 2015. وحصل الفيلم على جائزة "أوسكار" لأفضل ممثل مساعد للممثل مارك رايلانس من أصل 6 ترشيحات.
يتمكن المحامي من إقناع المحكمة بعدم إنزال عقوبة الاعدام بحق "موكله" ليحكم عليه بـالسجن 30 عاما. يرفض الاميركيون العقوبة ويعتبرونها غير كافية، وتتحول نقمتهم تجاه المحامي، على شكل الدعوات إلى نبذه، معتبرين انه خرج عن الصف الوطني، وتتطرف الحملة ضده إلى حد اتهامه بخيانة الأمة الاميركية، وتتم مهاجمته وعائلته في منزله. كما تثار قضية كونه محايدا سياسيا، لعدم تبنيه فكرا سياسيا محددا، حيث يرى ذاته محامياً لا سياسياً، ولم يكوّن موقفا سياسياً خاصا به لذلك.
وفي خضم الحملة التي تستهدف دونوفان، يتمكن الاتحاد السوفييتي من إسقاط طائرتي تجسس أميركيتين حاولتا اختراق أجوائه، خلال عملية استخباراتية، ويأسر طيارين اميركيين، ما يدفع الولايات المتحدة الى تكليف المحامي نفسه، لإنجاز صفقة تبادل لضمان استعادة الاسيرين الاميركيين مقابل الجاسوس السوفييتي، ويكلف بالذهاب إلى المانيا الشرقية بشكل سري للقيام بذلك، حيث ينجح في المهمة ويعود إلى الولايات المتحدة بطلا.
يحاول الفيلم إبراز دور ومكانة الأخلاق الأنسانية وأهميتها في التعاملات السياسية والدولية، التي تعتبر المرتكز الأساسي في الدعاية الاميركية، الرامية الى اظهار نبل الأميركي، وتبرير بغضه للشيوعية والماركسية، وتعزيز الصورة النمطية المتمثلة بخطر الشيوعية وضرورة محاربتها، كونها تسعى لتدمير الولايات المتحدة والعالم، باستخدام أسلحة الدمار الشامل لترويع العالم وشعوبه.
ويسعى الفيلم إلى تسليط الضوء على "التفوق الأخلاقي والإنساني" الأميركي في التعامل مع "الأسير"، انطلاقا من المنظومة القيمية الغربية المناقضة لتلك المنظومة المتجسدة في الشرق، والتي لا تعير اهتماما للقيم الانسانية والحقوقية. فيظهر الفيلم في أكثر من مشهد، الحوار الإنساني بين الاسير والمحامي، وتلبيته العديد من رغباته. وفي الوقت الذي تظهر فيه، جدية المحكمة الاميركية في التعاطي مع القضية، يبين مدى صورية المحكمة السوفييتية، والتعامل اللاإنساني تجاه الطيارين الاميركيين.
يمتاز الفيلم بطابعه السردي الكلاسيكي بعيدا شيئا ما عن عنصر التشويق والامتاع المتوقع في أفلام ستيفن سبيلبرغ، إلا إن ميزته تتمثل في تسليط الضوء على حقبة سياسية مهمة من تاريخ العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال النظام العالمي ثنائي القطبية، الذي تبلور خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي قامت على أنقاض النظام العالمي متعدد الأقطاب، وعرفت باسم الحرب الباردة.
تمكن الفيلم من التركيز على أهمية العلاقات الانسانية ومكانة الفرد في تحقيق النصر بمعناه التقليدي وغير التقليدي، فالاميركي سواء كان جنديا محاربا او محاميا ماهراً يمكنهم خدمة الوطن الاميركي كل بطريقته، وخاصة من خلال العلاقة الانسانية التي ربطت المحامي الجاسوس السوفييتي الذي اهداه صورة تذكارية يعبر فيها عن امتنانه للمحامي كونه انقذ حياته مرتين، حيث كانت الاولى عنما تمكن من تجنيبه عقوبة الاعدام والثانية عندما تمكن من اعادته الى دياره من خلال اتمامه صفقة التبادل.
عرض الفيلم مشهدا لمحاولة تنقل الافراد ما بين المعسكرين الشرقي والغربي، من خلال نموذج جدار برلين والحواجز الامنية التي تفصل المانيا الغربية عن الشرقية، وأظهر حجم التعبئة السياسية والاعلامية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، من خلال موقف الشعب الاميركي المشحون بالدعاية الاعلامية الاميركية تجاه خصمه الشرقي المتمثل المستند الى الماركسية، الذي يرى فيها الاميركيون تهديدا فكريا مباشرا للمنظومة الفكرية والسياسية والاقتصادية الغربية.
يخفي الفيلم حقيقة ان التفوق النووي للولايات المتحدة الاميركية ساهم في تحقيق التفوق الاميركي على الكل بما فيها الاتحاد السوفييتي بكل قدراتها العسكرية التقليدية، وان امتلاك الروس للسلاح النووي غيّر المنظر الاستراتيجي دوليا، متناسين ان الولايات المتحدة كانت السباقة لامتلاكه، وان ما قام به الروس يأتي في اطار المحافظة على توازن القوى الردع.
واذ يظهر الفيلم بوضوح حجم التعاظم الايدولوجي المتنامي في السياسة الدولية، الا انه بطريقة ما يحاول تحميل الروس المسؤولية الأكبر على حالة التعصب الايديولوجي، بسبب الفكر الشمولي الشيوعي، وكأن القائمين على الفيلم متناسون ان المفهوم الليبرالي لا يقل شمولية، حيث بات الاصطفاف الدولي ضمن خيارين فقط في تلك المرحلة بالتحديد اما ضمن المعسكر "الشيوعي" او الرأسمالي.
وبالرغم من أن كثير من النقاد يعتبرون ان الفيلم لا يضاهي في عناصره التشويقية باقي الافلام التي تعاون فيها "هانكس" مع المخرج "سبيلبرغ، الا أن الفيلم لا يقل أهمية عنها، وخاصة تلك الافلام الكلاسيكية التي حرص على تناولها سبيلبرغ خلال السنوات الاخيرة، والمتمثلة بالفيلم الذي يحاكي حياة الرئيس الأمريكي أبراهام لينكون.