الــدَّرْزِيّ
- إيهاب الريماوي ورامي سمارة
من القدس انطلق، فوطأت قدماه عمّان، ثم بغداد فالكويت فالرياض وطرابلس، وحط في دمشق وبيروت، لم يعمل فيها جميعاً، ولكن لما كان يحطّ الرحال في إحداها حاملاً إبرة وخيطاً، كان يأكل من صنعته جوزاً ولوزاً.
احتضنته عاصمة الرشيد، تعلق قلبه فيها فأعطته من خيرها، لكنه هجرها بعد أحد عشر عاماً.
هناك كان الميسورون يُفصّلون في الشتاء ثلاث بدلات، وأقل بواحدة في الربيع، كانوا يهتمون كثيراً بهندامهم.
في عينيه كانت أجمل مدن العالم، كان يستأجر غرفة في منزلٍ يغدق أصحابه عليه المأكل والمشرب، وأحياناً لا يطالبونه بالأجرة، وسخاء شعبها المضياف انتهى به المطاف بعرض هوية لاجئ عليه مقابل البقاء، لكنه حزم حقائبه وغادر بغداد عام 1966.
عاد أحمد الشاويش إلى رام الله، وباشر العمل في محله الخاص، ثلاث سنوات اتجه بعدها إلى القدس التي ولد فيها عام 1935.
في باب الخليل افتتح دكاناً توّج فيه خبرة عمرٍ في الخياطة بدأت عام 1951، العواصم التي عمل بها كان لها فضل عليه، منها اكتسب خبرة لا ينكرها، ولا ينكر قبلها فضل معلميه المقدسيين، إسحق الشرفا، وعبد السلام الدجاني، وأحمد القباني، وعز الدين وفا الدجاني، وأرتين الأرمني.
استشرف فيه معلموه خياطاً ماهراً، فكانوا يرفعون السقف فوق قدرته، أحدهم صفعه يوماً لأن انتاجه قلّ بقطعة واحدة عن إنتاج أربعة من زملائه مجتمعين، حينها كانوا يضعون أزراراً وعراوي للباس عمال بلدية القدس التي كانت في حينه تتبع الأردن، ومرة تعمد معلمه شق إصبعه لأنه تأخر في إحضار المقصّ.
بعد عقدٍ من الزمان، ضيّق الغزاة عليه الخناق، ومُنع اليهود من الشراء من محلات العرب، فضاق الحال إلى أن استحال العمل، لا دخل يغطي المصاريف، ولا اسمه الذي كاد يطبع بين نسيج القماش وعلى كل سُمِّ خِياط؛ أصبح يعطيه كفاف يومه.
عام 1986، غير ملامح دكانه في باب الخليل، أفرغه من أدوات الخياطة وخبأها، وحوّل المخيطة إلى مسكن يؤويه وعائلته، ثم مضى يطارد بإبرته وخيطه رزقه في عواصم العرب.
بعد ذلك باثني عشر عاماً، عاد إلى رام الله حيث ما زال اسمه يتردد بين جنباتها، جلب إلى مخيطة افتتحها ما خبأه من أدوات. أحدٌ في مكانه قد يمل الثقوب والوخز و"البكرات" و"الطُبب"، وقد يرى أن الكشتبان ضاق على إصبعه، وقد يكل أخذ القياسات وتقدير الأبعاد، غير أن الشاويش الذي لم تستهويه البتة جلسات المقاهي ودخان النرجيلة وقهقهات العجزة وشرودهم، لم يكن على استعداد للتخلي عن مهنته، بل كان ليفديها بروحه.
لم يخن الصنعة لكنها خانته، أدخلت الآلة عليها وفُتحت الحدود أمام إنتاجاتها؛ فلم تعد كما كانت، "الخياطة لم تعد حرفة لها مكانتها، الخياطون كُثر، والمحال التجارية أصبحت تعج بالبدل المستوردة، ولم يعد خام البدل وقماشها متوفراً، وحتى الحشوة الانجليزية غُيبت، الموجود هو المقلد، الذي يستهلك ويبلى بعد ثلاثة أو أربعة أشهر".
التهمت الصناعة فن الخياطة، والإبرة أصبحت تابعة للآلة بعد أن كانت لقرونٍ آلة بحد ذاتها، اليوم الخياطون هم من يستطيعون تشغيل ماكينات "القص واللصق"، وهم من يظنون أنهم يتقنون تقصير البناطيل وحياكة أواخرها.
يفخر أحمد الشاويش بأنه احتل الاسم الأول في القدس كخياط، كان مقصداً للأطباء والمعلمين والفرق الموسيقية والسحرة، ويذكر أن ثمن البدلة الواحدة وصل إلى 12 ديناراً عام 1960، وحينها كان مبدأ التقسيط متاحاً للزبائن، حيث يمكن سداد ثمنها على مدار عام، دينار في كل شهر.
اليوم، لا تغريه 10 آلاف شيقل لخياطة بدلة، رغم أن تكلفتها لا تتجاوز 3 آلاف، حيث القماش لم يعد متوفراً بذات الجودة التي تتيح له إعمال فنّه وسحره، عدا عن الأثر الذي تركته الحملقة في بصره.
الشاويش، لا يجد وجهاً للمقارنة بين بدلات حاكتها يداه منذ عقود وتلك التي يغص بها السوق، "صنع يده يفوق موضة هذه الأيام جمالاً، ويتفوق عليها ذوقا وفنا ونظافة ومخافة لله".
قبل 18 عاماً، دق أحمد الشاويش آخر خيط في آخر بدلة صنعها، وجد نفسه ضعيفاً أمام قوة الآلة وغزو السوق المفتوح، في محله برام الله الذي تتدلى من سقفه مكاوٍ بلاستيكية؛ ينحني بصعوبة أمام ساقي فتى جاء لتقصير بنطاله، يأخذ علامة ويطلب منه الانتظار لخمس دقائق ينهي خلالها عملاً كان يزدريه، يطلب مقابل ذلك 10 شواقل.