قصف الأعمار عن طريق الخطأ، مصطفى نمر نموذجاً
خالد جمعة
"إن الأسف من قبل المخابرات والمحققين لن تعيد إلينا مصطفى" والد الشهيد
فلسطين بلاد تقع تحت الاحتلال، ربما تغيب هذه المعلومة عن أذهان الكثيرين حين تتم مناقشة حدث يومي، والذي في أغلبه يكون إما قتل جنود الاحتلال لشاب بدعوى ما، أو هدم منزل أو اعتقال أشخاص، وربما يغيب عن أذهان الكثيرين أن هناك قانوناً دولياً يحكم العلاقة بين المُحتلّ والواقع تحت الاحتلال، وهذا القانون لا يمكن النظر إليه بجدية قبل أن يتم تعريف إسرائيل على أنها قوة احتلال، وهنا تبرز المشكلة الكبيرة في فهم العالم لما يدور على الأراضي الفلسطينية، فتبدو الأمور وكأنها نزاع بين طرفين كما يحدث في أي بلد فيها طوائف متعددة، لكن الأمر مختلف، ولكي نثبت للعالم أنه مختلف علينا أن نقوم بالكثير من الجهود التي تتعلق بإيصال الصورة إلى العالم، حتى ذلك العالم الذي يبدو من بعيد في بعض أجزائه متعاطفاً معنا، يجب أن نقول ما يحدث موثقاً بما يمكن أن نحصل عليه من توثيقات.
في قضية الشاب مصطفى نمر، لم يعد هناك مجال للتأويلات، بعد أن اعترفت مخابرات إسرائيل ذاتها بأن مصطفى قتل عن طريق الخطأ، ولا يتعلق الأمر بقضية "شهد شاهد من أهلها"، بل يذهب إلى ما هو أعمق من ذلك، فمن تابع الرواية الإسرائيلية في بدايتها، وكيف انتقلت من مرحلة التأكيد على أن الشابين اللذين كانا في المركبة حاولا دهس جنود، إلى الاعتراف الصريح بوقوع خطأ في عملية القتل، وهذا يقودنا إلى التلفيقات المختلفة التي تبنتها إسرائيل كنهج عبر السنوات، والتي تلقى آذاناً صاغية لدى العالم الذي لا وقت لديه للبحث عن الحقيقة.
مصطفى طلال نمر ابن السابعة والعشرين، استشهد بعد إطلاق النار عليه من قبل الجنود الإسرائيليين في مخيم شعفاط الذي يقع شمال مدينة القدس، وكان يرافقه في المركبة قريبه علي تيسير نمر الذي أصيب بجروح خطيرة، وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باحتجاز جثمان الشهيد مصطفى، ورفضت تقديم أي معلومات حول وضع علي الصحي لأهله.
مباشرة قامت قوات الاحتلال بالادعاء في بيان رسمي بأن مصطفى وعلي حاولا تنفيذ عملية دهس لأفراد من قوات الجيش أثناء تواجدهم داخل المخيم، ومن هذا المنطلق تبنت وسائل الإعلام الإسرائيلية رواية الجيش الإسرائيلي مباشرةً، دون محاولة التحقق من مصداقية هذه الرواية، بالطبع، فمن سيحقق في مقتل شاب فلسطيني قال الجيش "العظيم والأخلاقي" أنه حاول دهس جنود، بل على العكس، فإن الكثيرين ممن تبنوا رواية الجيش الإسرائيلي، من الإسرائيليين طبعاً، اعتقدوا عبر تغريداتهم على مواقع التواصل بأن الجيش قام بعمل عظيم، ويجب عليه أن يستمر في ذلك.
بالطبع اعتُبرت شهادة والدة مصطفى مجروحة، لأن الفلسطيني دائماً محل تكذيب لدى الجهات الإسرائيلية، فلم تلق كلماتها أي صدى عندما قالت إن مصطفى قد خرج مساء الأحد إلى بيت شقيقه ملبياً دعوةً على العشاء، وأنها في منتصف الليل أتصلت به فأخبرها أنه ما يزال عند أخيه.
والد مصطفى كذلك قال إن الشرطة الإسرائيلية رفضت الإفصاح له عن أية معلومة بخصوص ابنه الشهيد وزوج ابنته علي.
في إحدى الشهادات الميدانية، سيدة تسكن شارع عناتا، وتدعى نازك غيث، سمعت أصوات الرصاص بعد منتصف الليل، فخرجت إلى الشرفة لتشاهد العشرات من الجنود يطلقون النار بكثافة باتجاه المركبة التي يحاصرونها، ويسلطون عليها الكشافات، ورأت أحد أفراد القوات الخاصة يفتح باب السيارة ويطلب من السائق النزول وسط صرخات وشتائم وتهديد بإطلاق النار، وأن الشاب رفع يديه وهو يقول: ما عملت إشي، فسحبوه من قدميه وضعوه على الأرض وأجبروه على خلع ملابسه رغم النزيف الذي كان يعاني منه جراء إطلاق النار عليه.
بعد ذلك، تقول غيث، حضرت سيارتان عسكريتان، وأخذ الجنود الشهيد في الجيب العسكري ونقلوا المصاب في سيارة أخرى، وقد روت غيث أن القوات التي أطلقت النار لم تقدم أية مساعدة لا للشهيد ولا للمصاب، رغم أن الوقت بين إيقاف السيارة ونقل الشابين تجاوز الثلاثين دقيقة.
بعد هذا صدر بيان الجيش الذي أشرنا إليه سابقاً، والذي يتهم الشابين بمحاولة دهس الجنود، لكن حدثاً دراماتيكياً حدث بعدها، إذ قامت المخابرات الإسرائيلية بإبلاغ والدي الشهيد رسالةً قصيرة مفادها: نأسف، لقد قتل عن طريق الخطأ، وبالتالي سقط ما جاء في البيان الرسمي الأول الذي أصدره الجيش.
الوالدان تم استدعاؤهما إلى مركز شرطة النبي يعقوب في بيت حنينا، وادعت المخابرات أن وحدة التحقيقات مع الشرطة "ماحش" تقوم بالتحقيق مع الجنود الذين أطلقوا النار على المركبة وأن ابنهما لم يقم ولم يحاول هو أو رفيقه تنفيذ عملية دهس، كان الكلام بهذا الوضوح.
يقول والده: إن الأسف من قبل المخابرات والمحققين لن تعيد إلينا مصطفى، فمن يمكنه مناقشة الأب في ذلك؟ خصوصاً أنه يجزم بأنه سيتابع قضية قتل ابنه حتى يحصل مطلقو النار على عقابهم الذي يستحقونه.
ورغم ذلك الاعتراف الواضح، فإن محكمة الصلح الإسرائيلية مددت توقيف علي نمر ابن الخامسة والعشرين إلى يوم السابع من أيلول، للتحقيق معه بتهمة القيادة بدون رخصة، بالطبع هذا حتى تكتمل المهزلة في دولة النظام والقانون، دولة الاحتلال التي تحتجز مصاباً أطلقت عليه النار خطأً وقتل من كان معه في السيارة، ولا يتلقى من أطلق النار وقتل شاباً في مقتبل العمر أي عقاب على ذلك.
هذه ليست الحادثة الأولى التي يفضحها الإعلام وشهود العيان، فكثيراً ما وقفت إسرائيل عاجزة عن تبرير جرائمها بسبب أن هذه الجرائم إما حدثت أمام الكاميرا، أو أن خللاً معيناً أصاب الرواية الإسرائيلية نتيجة تناقض الشهادات بين الجنود أنفسهم، فقد أربكت إسرائيل القذيفة التي قتلت أولاد بكر مثلا على شاطئ غزة عام 2014، واربكهم احتراق عائلة دوابشة، مع أن كل هذه الممارسات ليست حديثة في تاريخ القمع الإسرائيلي، فمجازر النكبة، والنكسة، والمجازر داخل وخارج فلسطين، والاعتقالات والتعذيب في السجون، والشهداء الذين سقطوا تحت التعذيب، والاغتيالات التي تتم بواسطة الطائرات بدون طيار، دون أن يعطى الشهيد فرصة ليدافع عن نفسه، على الأقل أن يقول روايته قبل الحكم عليه، كل هذا جعل إسرائيل تتمادى فيما تفعله، حيث تظن أن الحدث يلغي الحدث.
هناك جهات فلسطينية قانونية من الواجب عليها أن تتبع خيوط هذه الجرائم، وإذا كان الذكاء الإسرائيلي قادر في حالات كثيرة على تزوير الحقائق، وقلب الصورة لصالح القاتل في مقابل الضحية، فإن هناك بعض الحوادث التي تقوم فيها إسرائيل بإدانة نفسها، وحادثة مقتل الشاب مصطفى نمر هي إحدى هذه الحوادث، فرغم الحزن الشديد الذي يحدثه مقتل أي فلسطيني، إلا أن إسرائيل قدمت لنا قضية جاهزة على طبق من فضة، ويبقى السؤال، هل سيتحرك القانونيون الفلسطينيون مدعومين بالخارجية الفلسطينية لاستغلال هذه الحادثة، أم أنها ستطوى كغيرها ويصبح مصطفى مجرد رقم يضاف إلى الشهداء الذين سقطوا في تاريخ فلسطين الطويل؟