عندما تنطق غزة ...إطلاق كتاب "في الحرب بعيدا عن الحرب" لخالد جمعة
نداء عوينه
"عندما تحضر الحرب، نقف عراة من كل المعاني المخزنة في عمق الذاكرة والتي لن تفارقنا. هذا الكتاب له وقع خاص، مختلف عن الكتابات التي نراجعها والأمسيات التي نشارك فيها كونها تمس مسألة شخصية لنا، فعندما نتحدث عن الحرب نتحدث عن تجربة نتشارك فيها جميعنا كوننا أبناء المكان وشهدنا فيه الكثير من المواقف والكثير من الحكايات"، هكذا قدم الشاعر إيهاب بسيسو كتاب "في الحرب بعيداً عن الحرب" للشاعر الفلسطيني خالد جمعة، مساء اليوم الأحد، في حفل إطلاقه بمتحف محمود درويش في مدينة رام الله.
صدر الكتاب عن وزارة الثقافة الفلسطينية، بأربع لغات ترجمته إلى الإنجليزية والفرنسية لينا الحسيني من لبنان وإلى البلغارية مايا تسينوفا من بلغاريا.
"اليوم وانا أقف لأقدم هذا الكتاب الذي تتشرف الوزارة بأن تكون قد طبعته، أقف أمام حالة من حالات المدينة التي عشناها قبل الحرب وفيها وبعدها تلك هي المفارقة؛ فهذا التقديم يحمل شحنة خاصة مغايرة لما نقدمه من تجارب الأدب الفلسطيني،" قال بسيسو.
وأضاف: "هذا هو الإصدار الثلاثين لخالد جمعة، هو نص طويل يتحدث فيه خالد عن تجربة فريدة في إعادة قراءة المكان وتصويره من خلال الملاحظات الدقيقة وتصوير ما حدث في حرب 2014. يقدم خالد جمعة اختلاف حرب 2014 وحرب 2012 وحرب 2008، عن غيرها من مشاهد الدمار التي كانت تقودها ماكنة القتل الإسرائيلية، كانت هذه الحرب هي الأكثر سطوة في الحديث عن غزة، وما قبلها كان هناك سنوات فيها قصف يومي وشبه يومي والعديد من الجرحى والشهداء الذين لم تلتقطهم عدسات الكاميرا، لكن كان هناك الكثير من الضحايا الذين دفعوا ثمن وجودهم في المكان الخطأ في اللحظة الخطأ عندما أصابت القاذفات الإسرائيلية أهدافا مدنية وبيوت ومدارس ومستشفيات."
وتابع بسيسو: "يجمع كتاب في الحرب بعيداً عن الحرب السرد النثري والرؤية الشعرية؛ في الحرب لأنها لم تفارق خالد جمعة الذي عاش كل الذكريات في رفح وغزة وخان يونس ودير البلح وصولاً الى غزة المدينة والأصدقاء ومكان العمل والكثير الكثير من المشاهد. في الحرب نعم هي الذاكرة المستمرة التي لم تتوقف على هذا الشريط الحدودي الذي عاش كل أنواع الحروب والعدوان، هو استمرار لذاكرة المكان على هذه البقعة المنبوذة أحيانا والمستهدفة أحياناً كثيرة، أما بعيداً عن الحرب فهي التجربة الأخرى التي يقدمها خالد جمعة، والتي حين حدث عدوان 2014 لم يكن في غزة بل كان في رام الله ملقيا الضوء على ما كل حدث في الحرب. كان لنا ونحن المقيمون في رام الله الكثير من الأحاديث والنقاشات عن الحرب وما يحدث فيها وأسماء الشهداء والأهداف التي استهدفتها الطائرات الإسرائيلية، بعيداً عن الحرب، تحتل بعداً مجازياً آخر أراده الشاعر كي يقول لنا أن في الحرب بعيداً عن الحرب مساحة لنقول في الحرب ما لا يقوله عن الحرب كالحب والمستقبل والأمل والذاكرة، أراد أن يصور ذاكرة غزة التي تحترف الحياة."
وأردف بسيسو: "هناك مشاهد متعددة ليوميات الحرب على غزة والتي تلتقط أبسط الأشياء لتعيد إنتاجها كبيان ثقافي نراه ملاحقاً الأطفال والأسواق معاتباً فراغها من أهلها والأصدقاء الذين رحلوا فجأة، يلتقط مشاهد من المستشفيات والطرقات ويحاور ذاته في مونولوج طويل عن الذاكرة والحياة والمستقبل، لا أبالغ حين أقول إنه ينتصر للحياة بعيداً عن انتصار غزة أو صمودها، فالصمود أو الانتصار هو البقاء على قيد الحياة رغم ما غيّره الاحتلال من المعاني."
"حاول خالد جمعة أن يصفعنا جميعاً ونجح،" قال بسيسو، "بالنسبة للقارئ تنتهي الحرب في نهاية آب 2014 بعد 53 يوماً بمحصلة آلاف من الشهداء والجرحى والبيوت وانتهى الخبر، أما بالنسبة لمن يتحدث عنهم خالد جمعة والذين يعيشون في غزة، فمنهم من سيشفى ويعود ليمشي على قدميه ومنهم من لن يعود ليمشي على قدميه، يفضح خالد الكثير من الشعارات ليقول إن الحرب ليست خبراً ولا شعاراً نلقيه في وجوه الجميع ونستمر في حياتنا اليومية، يقول خالد جمعة إن المعاناة الحقيقية تبدأ حينما تنتهي الحرب، فيلتقط الكثير من المفارقات من خلال الأصدقاء للحديث عن الأطفال بعد الحرب للذين عاشوا الحروب ويحاولون الاستمرار في حياتهم اليومية رغم كل الانتهاكات، يرصد الاكتئاب والقلق والخوف والنزوح الى العنف، يتحدث عن الأمكنة والذاكرة والبحر الذي تحول إلى مقبرة يتحدث عن الكثير من هذه التفاصيل."
وتابع: "أراد أن تكون رسالة غزة، أرادها أن تكون صفعة، أن تكون قراءة لغزة مرة أخرى بعيداً عن الكليشيه والإفراط في الأدب والسياسة والمجاز لذا نرى الكتاب منفتحا، متنوعاً بين الرصد والتقرير والمونولوج الداخلي، وهذا في تكوين خالد جمعة الإبداعي نراه يحافظ على ترابط الأحداث في سياق هذا البيان وهذه التجربة السردية المميزة التي تضاف إلى سجله في الإبداع."
وأضاف بسيسو: "هناك مفارقة أخرى عندما نتحدث عن الكتاب، فهو ليس بيانا فقط باللغة العربية، بل هو موزع باللغات الأربع، الإنجليزية والفرنسية والبلغارية والعربية، وأن نجمعها بين دفتي الكتاب هو بحد ذاته بيان ثقافي، وقد شعرت بمدى الشغف الذي قدمته لينا الحسيني في العمل على الترجمة للإنجليزية وأنا واثق أن عمل مايا تسينوفا كان بنفس الجودة، نقدم هذا الكتاب بأجنحته المتعددة ليقرأ ليس فقط ما كتبه خالد بل ما كتبته عن الأطفال والأماكن. أردنا في وزارة الثقافة أن نقول إن جهدنا الثقافي يهدف لأن تكون روايتنا الثقافية سائدة وقوية، سيصل هذا الكتاب إلى معرض عمان الدولي للكتاب في أول مرة تشارك فيها فلسطين كضيف شرف وسيسافر إلى العواصم العربية ليقرأه العربي والناطق بلغات عدة ويرى ما تنتظر غزة أن نقدم لها".
وعن حكاية الكتاب قال الشاعر خالد جمعة: "في الأيام الأولى كنت أتابع الحرب متأثراً، لكن لم يكن أي مشروع يدور في رأسي، في اليوم الرابع بعد قصف عائلة البطش حيث استشهد 22 فرداً من العائلة وكان هناك أثر من 50 إصابة منها 30 حالة بتر، لم يركز الإعلام سوى على الشهداء، وهناك رأيت أن المأساة ستستمر لدى من تبقوا أحياء. فبدأ المشروع برأسي لهدفين: تكذيب الرواية الإسرائيلية وفضحها، ونقل حقيقة ما بعد الحرب، عمن تبقوا ولم تقتلهم الحرب، وبعد 51 يوما أنجز الكتاب".
ووجه الشاعر جمعة الشكر إلى أربعة أشخاص ساهموا في الكتاب، هم لينا الحسيني ومايا تسينوفا والشاعر عبد السلام العطاري وعبد الكريم فتاش اللذين تابعا الكتاب وإصداره.
وذكر جمعة أن مقال "مشاهد لا ترى في الحرب" وهو أحد مقالات الكتاب قد ترجم إلى 12 لغة ونشر في حوالي 7 صحف عالمية، واتصل رؤساء تحرير الصحف وقالوا إن الكثير من آرائهم تغيرت عما يحدث في غزة نتيجة هذا المقال، فاختلف الأمر وتحوّل من مجرد تعبير عن الغضب إلى مشروع حقيقي، ولم تقم مايا تسينوفا ولينا الحسيني بترجمة الكتاب عندما أصبح كتاباً، بل قامتا بالترجمة عندما كنت أكتب، وحين أصبح الكتاب كتاباً لم يكن عليهما إلا تجميع الكتاب كما جمعته أنا."
بدوره، قال بسيسو: "عندما نرى أن الكتاب قد وصل إلى غزة، وكانت شهادة نعيم الخطيب من غزة، نحن نسعى من خلاله إلى كسر الحواجز والحاجز الأصعب كان حاجز الوصول الى غزة، وكما نحتفي الليلة بأن الكتاب يطلق من رام الله، كان مؤثراً أن نراه يعود إلى أساس السرد، الى غزة حيث يقرأون انعكاس وجوههم فيما كتب فيه."
وقرأ بسيسو من الكتاب المقطع التالي: "سيمر الوقت، ويشفى الجرحى القادرون على الشفاء، أما أولئك الذين غابوا عن الوعي، والذين ذهبت أطرافهم مع من ذهبوا، فسيعيشون بقية أعمارهم دون أيدي، دون أرجل، دون قدرة على السمع، دون القدرة على الرؤية، سيبقون في عالمهم، وربما يسأل عابر مصادفة بعد عشر سنوات: كيف فقدت ساقك؟ وقبل أن يبدأ ذو الساق بالرواية سيكون السائل قد أدار وجهه ومضى ليتفقد شيئاً آخر، سيصبح هؤلاء معاقين، ولن يصبحوا أبطال حرب في نظر الناس، سيفكر رجل ألف مرة قبل أن يزوج ابنته لشاب قطعت ساقه في الحرب، وستفكر بنت ألف مرة قبل أن تبادل شاب دون يدين نظرات الإعجاب، هؤلاء في الغالب ستنتهي حياتهم إلى نظرات الشفقة من الآخرين، وسينسى الجميع تقريباً سبب إصابتهم."
وعلق جمعة على هذا النص قائلاً: "عندما تكتب شيئا وتتمنى أن تكون مخطئاً، كتبت هذا النص في اليوم الـ 28 للحرب، وكان تمرداً على الشعار،" وأوضح مفهوم تخزين الأزمة أي التأجيل غير الواعي للتعامل مع الأزمة النفسية وظهور أعراضها فيما بعد إما كمتلازمة أعراض ما بعد الصدمة أو كاضطرابات نفسية أخرى، فبعد عام 2012، أصيب الكثير من الشباب بذلك، "كانوا يقولون لي إن هناك خوف وعدم القدرة على النوم، وهذا ما يحدث عندما تنتهي الحرب، أن يستمر الناس بالعيش في المدارس دون بيوت، المأساة هي استمرار نتاج الحرب ما بعد الحرب، أو بعيداً عنها."
وتحدث الشاعر جمعة عن الغفران للمعتدي الإسرائيلي، قائلاً إنه لا يمكن الغفران لجيش يقصف مقبرة، أو يخرج أشلاء الأطفال من قبورهم، فهناك تحزن على من فقدت مرتين، مرة عند موتهم ومرة عند قصف قبورهم."
وقرأ بسيسو مقطعاً آخر من الكتاب:
" لا أريد أن أرى غزة الآن...
أريد أن أحتفظ بذاكرتي عن سوق الزاوية القديم في مدينة غزة، السوق الذي تعرفني فيه كل النساء اللواتي يبعن الخضرة التي زرعنها في بيوتهن، السوق الذي تمشيت فيه مرات لا تحصى مع أصدقائي، وعن سوق الشجاعية في المدينة الذي ـ أبداً ـ لم نبحث عن شيء فيه ولم نجده، أريد أن أحتفظ بذاكرتي عن شوارع البريج ودير البلح، وشاطئ السودانية الذي جلسنا عليه وشوينا السمك كلما اشتهينا طعماً غزاوياً، أريد أن أحتفظ بذاكرتي عن خزاعة ومركزها الثقافي وأطفالها المذهلين الذين أبكوني حين وجدتهم يحفظون الأغاني التي أكتبها، لا أريد أن أزور قبورهم، أريد أن أحتفظ بذاكرتي عن مخيم خان يونس حيث لعبت مع أولاد عمي وأولاد عمتي ونحن أطفال، وحتى بعد أن كبرنا، وعن القرارة التي قضيت جزءاً كبيراً من طفولتي فيها، عن أشجار البرتقال والعنب والتين التي أحاطت بالشبابيك فكان يكفينا أن نمد أيدينا من الشباك لنقطف لوزاً أخضر، أريد أن أحتفظ بذاكرتي عن رفح التي ولدت وتربيت فيها، أحتفظ بذاكرتي عن مخيم الشابورة، عن فضل الفوال وحسن ومنافستهما على الزبائن، عن أم الحبيب بائعة الترمس، عن شارع أبو الصابر الذي لم يبق أحد في غزة لم يعرفه، عن شارع الهدد الذي أعلن انتفاضة وحده، عن شارع اسدود وسوق المخيم، وعن حي الجنينة الذي كنا نهرب إليه في منع التجول، وعن تل السلطان حيث يسكن أصدقائي القدامى، وعن مخيمات يبنا والبرازيل والشعوت وبلوك "أو"، عن دوار العودة، عن المقبرتين الشرقية والغربية وأصدقائي الشهداء الذين يرقدون هناك، عن حي السلام، عن الحدود مع مصر وطريق المطار المليئة بأشجار اللوز، لا أريد أن أرى غزة الآن، لا أريد أن أبدل ذاكرتي..."
وقال جمعة: "غزة تشبه طفلا صغيرا أبدى ذكاء أكبر من عمره فأعجب به الناس وحملوه فوق طاقته، غزة لا تحاول الانتصار، غزة طفل أذكى قليلا أو أقوى قليلا لكنها ليست بطلا خارقا، وهي تحتاج المساعدة وتحتاج لكل نقطة ماء أو دواء، هي فعلياً رغم صمودها ليست بطلاً خارقاً، هي كالولد الذي استفردوا به في الحارة."
"أصعب حرب مرت عليّ هي حرب 2014، بالنسبة لي الأماكن ترتبط بذكرياتها، والشهداء هم أصدقاء، وكان مأساوياً انتظار أسماء الشهداء فليست هناك إمكانية الاتصال بالجميع، هدف هذا الكتاب مختلف عن هدف الصحافة، مهمتي واحدة: أن أبين الأشياء التي لا ترى في الحرب، بعيدا عما يقال عادة عن الحرب، فكرة أن يرانا الآخرون بعين مختلفة عن التي ينرون إلينا بها، أن يرونا بشراً."
وقرأ خالد جمعة من كتابه:
" عندما تنتهي الحرب
لن أكتب أسماء الشهداء على ألواح مرمرية
سأدفنهم بما يليق بهم
وأشربُ نسيانهم لأنظف ذاكرتي
ربما أبكي قبل بداية النسيان
ربما أشتم شيئاً مجهولاً
وأكز على أسناني في فورة غضب
وأترك الجرحى ينزفون على الأرض
لأني مشغول بالبكاء عليهم
لكني سأنسى، كالوطن الذي لا ذاكرة له
فلو كان يملك ذاكرة
لما استطاع أن يحيا بكل هؤلاء الشهداء فيها
عندما تنتهي الحرب
سأعود إلى طبيعتي
سأشطب أرقام أصدقائي الذين ماتوا
عن جهازي الخلوي
سأنزع صورهم من الألبومات
حتى تلك التي أنا فيها معهم
سأنسى أسماءهم وأستبدلهم بأصدقاء أحياء
وسأتحرر من هداياهم، لوحاتهم، قصائدهم، أغانيهم
ولا بأس إن أخذوا قطعةً من قلبي
فالحياة بربع قلبٍ ممكنة
عندما تنتهي الحرب
لن أزور البنايات المهدمة
ولا الأماكن التي ربيت فيها ذكرياتي
فماذا ستنفع الذكريات بلا أمكنة؟
سأهشُّها كذبابة غبيّةٍ عن روحي
وأربي ذكرياتٍ جديدة
على صفحةٍ بيضاء
وربما أؤلّفُ ذكرياتٍ كما يحلو لي
فمن سيحاسبني وقد اختفت الأمكنةُ والأشخاص
سأكون في الذكرياتِ ولداً سعيداً
لم يشهد حرباً في حياته
ولم يُقتل أقرباؤه في الحرب
بل لا يعرفُ معنى كلمة حرب
سأرتب ذكريات عائلتي كذلك
وبلادي
وسأصير من بلادٍ لم تشهد قتلاً
منذ ألف قرن
عندما تنتهي الحرب
لن أنتبه إلى الأطفال الخائفين
سأعتبر أن خوفهم سوء تربية
وأن ارتجافهم مرضاً عصبياً
وأن بكاءهم دلعاً زائداً عن الحد
وأنهم حين ظلوا وحيدين دون أهلهم
ذلك لأنهم أولاد فاسدون
يهربون من البيت
حتى أنهم ما عادوا يعرفون طريق البيت
من كثرة ما هربوا
عندما تنتهي الحرب
لن أبحث عن قبر حبيبتي
ولن أكتب شعراً فيها
سأدّعي إنني تركتُها لأنها لم تعجبني
سأنتقد تسريحةَ شعرِها
وطريقتها في الكلام
وذبول عينيها حين تقول: أحبك
سأقول إنني لأجل هذا تركتُها
فهاجرت إلى بلادٍ بعيدة
وحين يسألني فضوليّ عن الكلام المكتوب على قبرها
سأقول: مجرد تشابه في الاسم والعمر لا أكثر
وسأهرب قبل أن يسألني
ماذا تفعل هنا إذن؟