انتفاضة الحجارة.. حدث غير وجه القضية
يزن طه
قد يبدو الحدث عاديا، طوابير من الحافلات تقل عمالا عائدين إلى منازلهم، في انتظار "التفتيش" وسيارة تصدم عددا من الأشخاص، تقتل منهم أربعة وتجرح آخرين، قد يقول قائل إنه قضاء الله وقدره؛ ولكن أن تكون السيارة عسكرية إسرائيلية، وموقع التفتيش حاجز عسكري إسرائيلي ـ حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة ـ وأن يفر منفذ عملية الدهس الذي قيل إنه جندي، فإن الحدث لن يكون عاديا بالمطلق.
لم يكن كل من طالب محمد عبد الله أبو زيد (46 عاما) من مخيم المغازي، وعصام محمد حمودة (29 عاما) من مخيم جباليا، وشعبان سعيد نبهان (26 عاما) من جباليا، وكمال قدورة حسن حمودة (23 عاما)، وآخرين تعرضوا للإصابة يعلمون أنهم سيرحلون شهداء، وأن حادث قتلهم سيكون الشرارة التي ستطلق واحدا من أكثر الأحداث تأثيرا في القضية الفلسطينية، وأن يوم استشهادهم 8/12/1987 سيسجل على أنه يوم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، "انتفاضة الحجارة".
على إثر ذلك وفي اليوم التالي، يوم تشييع جثامين الشهداء الضحايا انفجر بركان الغضب، من مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة، باندلاع مواجهات مع قوات الاحتلال في القطاع، ساهم الطيران بتفريق المظاهرات والمحتشدين، ليرتقي ثلاثة فتية في ذلك اليوم.
واصل الغزيون انتفاضتهم ضد قمع الاحتلال لمسيرات تشييع الشهداء، ومن ثم ضد سياسته بشكل عام، وسط ارتفاع في عدد الشهداء والجرحى الذين يرتقون يوميا، والجرحى الذين يصلون المستشفيات، وامتد الغضب الجماهيري إلى الضفة الغربية، معلنا الحجر سلاحه في مواجهة أعتى قوة في الشرق الأوسط، والمسيرات السلمية وسيلته في سعيه للخلاص من الاحتلال.
الطرق المسدودة بالمتاريس، والمدارس والجامعات المغلقة، والشوارع التي يملؤها الحطام، والدخان الأسود المنبعث من الإطارات المحترقة، والأعلام الفلسطينية وصور الشهداء هي ما كان يميز المشهد الفلسطيني في ذلك الوقت.
وكلنا نذكر الصور التي ما فتئت القنوات التلفزية على بثها في كل مناسبة وطنية، صورة ذلك الجندي الذي يضرب فتى بقميصه الأزرق على يده اليمنى، وصورة ذلك الشاب المعتقل الذي يهاجم جنديا داخل عربته العسكرية، وصور النساء والشباب يرشقون قوات الاحتلال بالحجارة، وما زلنا نذكر كذلك صيحات "ممنوع التجول"، ومطالبات الجنود للكبار بإنزال الأعلام عن الأعمدة أو دهان الجدران لتغطية الشعارات، وملاحقة الشباب لمسافات طويلة في الأزقة وبين البيوت وحتى في الخلاء.
هذه كلها صور لانتفاضة عرفت أيضا باسم "انتفاضة كسر العظم"، وفقا للتعبير الذي استخدمه وزير جيش الاحتلال في تلك الفترة اسحق رابين عن السياسية التي تتبعها قواته في قمع الانتفاضة الفلسطينية، "سياسة كسر العظم".
إلا أن الرد الفلسطيني على هذه السياسة كان أقسى مما تخيل قادة الاحتلال أنفسهم، فشرارة الانتفاضة لم تهدأ، والهمة ترتفع يوما بعد يوم للوصول إلى الهدف؛ دحر الاحتلال ونيل الحرية، وهو الأمر الذي دفع رئيس أركان جيش الاحتلال في ذلك الوقت دان شومرون إلى القول "إنه من غير الممكن القضاء على الانتفاضة، ذلك أنها تعبر في جوهرها عن كفاح أمة"، وهو الأمر ذاته الذي دفع آخرين في جيش الاحتلال إلى القول: "إنـهـا، أي الانتفاضة، تمزقنا إربا وتقوي العرب، الحل السياسي هو المخرج الوحيد الذي ينقذنا من هذه المهانة".
واتسمت انتفاضة الحجارة بالعصيان المدني الواسع، وبالشمولية والسرية والتنظيم الجيد والمشاركة الفاعلة من كل شرائح المجتمع، كما أنها حملت في طياتها بذور التجدد، فدم كل شهيد كان كالوقود يغذي الانتفاضة ويمدها بالقوة لتستمر، وتشديد الاحتلال وقمعه عزز الانتفاضة الشعبية وصاعد من حدتها.
تضاربت الأرقام والإحصائيات حول أعداد الشهداء والجرحى، بعض الأرقام تتحدث عن استشهاد ما يزيد على 1500 مواطن بقليل، وبعضها يتحدث عن استشهاد أكثر من ألفي مواطن، أما عدد الجرحى فوصل إلى 120 ألفا، وعدد المعتقلين إلى 120 ألف معتقل أيضا، بينما شرد 150 ألف مواطن عن منازلهم.
ومع تصاعد العمل الشعبي والضغوط الدولية، اضطرت إسرائيل للرضوخ والجلوس إلى طاولة المفاوضات، والتوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993 الذي بموجبه أقيمت السلطة الوطنية على الأرض الفلسطينية.
جاء ذلك بعد استعادة منظمة التحرير مع إطلالة عام 1987، للكثير من وزنها السياسي، بعد صمودها في حرب المخيمات واستعادة مواقع لها في لبنان، وتصاعد الجهود لاستعادة الوحدة الوطنية، وتعاظم التأييد الشعبي لها في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كما كانت "م.ت.ف" مزودة بحصيلة من القرارات الدولية الداعمة لها ، كانت آخر حلقة فيها ما صدر من قرارات عن مؤتمر القمة الإسلامية الذي انعقد في الكويت بين 26-28 كانون الثاني/ يناير 1987، وعزز موقف "م.ت.ف" كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.