طلال شتوي.. زمن بيروت
ضيف وفا (11)
يامن نوباني
تربكه الكتابة، يرى فيها العري، ويرى في نفسه الحشمة والجبن والكلاسيكية، في عامه الدراسي الثاني، أصبح رئيس تحرير "الحسناء" وهي مجلة أسبوعية عمرها اليوم 90 سنة، الكاتب والإعلامي اللبناني طلال شتوي، المولود في طرابلس، المقيم بين بيروت وطرابلس.
يوصف شتوي بأنه آخر المتحدثين في الأزمات إلى كبار القادة في السياسة والأعلام، شريط وثائقي للذاكرة الفردية والجماعية، حين يكتب عن مكان، يأخذك معه إليه، وحين يكتب عن زمان، يضعك فيه، لا ينسى أحدًا ممن صادفهم أو صادقهم، ذاكرته ممتدة ومتصلة وهائلة.
يكشف في إصداره "بعدك على بالي" أن كل المهام كانت ثقيلة، وأكبر منه سنًا وخبرة، فكان لها، عاش بيروت، دون أن يبتعد عن طرابلس، يقول: كنت أركض وأحول العمر إلى عمرين لكي أكون بمستوى المطلوب والمتوقع مني، طالبت نفسي بالنجاح وتعبت.
قبل بدء الحوار، كانت دردشة خفيفة حول المكانين اللذين شكلا شتوي، فقال: عشت في بيروت الثمانينات التي كانت تحمل آخر ملامح العصر الذهبي لبيروت الآخذ في التلاشي، وعشت في بيروت التسعينات التي كانت مقدمة لبيروت الضئيلة في ألفيتها الجديدة الخاوية.
بعد بيروت لم أجد المكان البديل، فقدت الأمكنة قدرتها على اجتذابي أو استيعابي، لم يكن لي من مهرب سوى إلى الملاذ. مسقط الطفولة والبراءات الأولى. ربما كنت أحب إعادة اكتشاف طفولتي ومراهقتي. وبالفعل أعدت علاقتي بمدرستي الأولى وبالكورنيش البحري وبمقهى التل العليا أشهر مقاهي المدينة، لكنني مع ذلك لم أعرف أبدا الطريقة التي أرجع فيها طرابلسيا. بيروت تتغلغل في الكريات البيض والحمر وتعيد تشكيل المرء.
ما أحبه في طرابلس كان قد اندثر، صالات السينما، بسطات الكتب، مقهى لاباريك، ألق شارع عزمي، دهشة ساحة عبد الناصر المعروفة بساحة التل.
"أنا لا أزال حتى اليوم انتمي الى الحارات الشعبية واحس فيها انني قادر على مخاطبة أي شخص بدون سابق معرفة".
في السابعة عشرة من عمره، اشترك في برنامج "استوديو الفن"، والذي كان في ذلك الزمن جواز مرور إلى الشهرة، وتولى تقديم الحلقة التي لم يكن ضيفها أي ضيف، بل كان "نزار قباني"، "لم أقترب من نزار قباني ولم يقترب أحد. كنا من جيل يهاب الكبار". يومها قال له نزار: الشعر والفن ليسا بحاجة إلى نصائح من أحد.
"وفا" استضافت شتوي ليكون الضيف الحادي عشر في سلسلة "ضيف وفا"، وكان الحوار التالي:
هل تملك حكاية معينة مع بدايات القراءة؟
أذكر جيدا أول كتاب وقع بين يديّ. لم تكن لدينا مكتبة منزلية. كنت في السادسة أو السابعة، وعثرت في أحد أدراج أمي على رواية من مغامرات روكامبول. قرأتها وسحرتني. كنت كلما أنهي غرضي منها، أعيدها الى مكانها، خشية اكتشاف جريمتي. وذات يوم لم أجدها، ولم أعرف النهاية أبدا. لاحقا بحثت عنها كثيرا في المكتبات التي تبيع كتبا عتيقة، ولكن لم أظفر بها.
وفي الكتابة هل تملك حكاية للبدايات؟
وأذكر جيدا متى كتبت ما اعتقدته قصيدة شعر. كنت في الثانية عشرة ربما، وسهرت على الشرفة حتى الصباح. كنت أحب من طرف واحد، طرفي أنا لحسن الحظ، السبب الكافي لكي يصبح المرء شاعرا. ليلتها دخنت أول سيجارة. كانت من علبة "كنت". سيجارة بيضاء طويلة، والرائج أنها نسائية. أخذتها أيضا من جزدان أمي. أصبت بالدوار من أول مجة. لقد ابتلعت الدخان، كما سأفعل دائما، أما القيام بالأمور بكل ما فيها أو عدم الاقتراب منها. في الصباح، وكان يوم عطلة، اجترحت سببا للخروج من البيت، وذهبت الى السينما في حفلة العاشرة والنصف. كان الطريق الى السينما، عبر سيارة الأجرة، يمر حكما أما بيت تلك التي أحببتها ولم تحبني. كانت فرصة لكي أختلس النظر في الذهاب والإياب، دون أن يضبطني أحد متلبسا بالحب دون أمل. الفيلم الذي شاهدته كان فيلم رعب شهير. "طارد الأرواح" في جزئه الأول. اكتشفت كم الرعب يمكن له أن يكون حنونا يلهي المرء عن وجعه. لا أحب أفلام الرعب، لأنني أصاب بالرعب جديا! لكن، كم أشعر بحاجتي الى حياة لا تكون سوى فيلم رعب لا ينتهي.
وحول طقوسه في القراءة والكتابة يرى شتوي أنه: خلافا لما هو رائج، أنا لا أجد توازني النفسي والعاطفي في الكتابة. الكتابة تربكني. الكتابة عري وأنا محتشم وجبان وكلاسيكي إلى الحد الذي يثير السأم. توازني الحقيقي هو في القراءة. لا أقرأ الشعر إلا بالصدفة. الشعراء ليسوا أصدقائي، أخاف منهم، خصوصا اذا احببتهم. أقرأ الرواية حصرا. والسير الذاتية أعتبرها أروع الروايات. الطريف أنني لا أخاطر في طقسي اليومي الذي لم أخلف معه موعدا منذ عقود، فأنا أقرأ ما هو مضمون الجودة والمتعة. طبعا أنا ممن يعيدون قراءة الروايات المفضلة عدة مرات، وأحيانا بشكل سنوي.
هل سيهجرني قرائي إذا اعترفت أنني أكتب على عمق منخفض؟ لا أعرف! لكنني أراني مدفوعا لتسجيل هذا الاعتراف! لا أتوغل الى العمق المخيف أو المحرج او المخجل. أكتفي بعمق قليل هو أقرب الى السطح، وأمتلك مهارات اقناع من يقرأني بأنني هبطت الى أقصى عمق ممكن! كم أنا غشاش محترف.
عاش شتوي الحب بكل أعاصيره، وقال فيه: مضى ما يكفي من العمر، لكي أقرر النتيجة التالية: لقد نجوت من الحب. فعليا، أنا لا أصلح للحب. العلاقات الوحيدة التي حافظت عليها، هي علاقات الحب من طرف واحد. أعتقد أنني كسرت الكثير من القلوب، وأجزع كلما فكرت بالأمر. بالنسبة اليّ، لا أحمل ندوبا من هذا النوع. كانت انكساراتي العاطفية وسيلة لتغذية القرار الصعب بالوحدة الكاملة والنهائية.
عندما عرفت الحب المشتعل المتبادل، أصبت باختلال! إنهما حبان لا أكثر. الحب الأول أجهضته بمهارة ودون ندم! هل حقا دون ندم؟ دعني أدّعي ذلك. الحب الثاني لم أهرب منه. كنت أعرف أن الأوان قد فات وأنني لست بحاجة للهروب.
عشت حياتك وما زلت في الصحافة، كيف كانت التجربة؟
عملت في الصحافة. اخترتها واختارتني. لم أكن لأجيد مهنة تؤمّن لي مورد عيش غير الصحافة. دائما أقول أنني محظوظ، فأنا في سنتي الجامعية الأولى بدأت مسيرتي المهنية بنجاح استثنائي. لم أعمل محررا سوى شهرين. مباشرة تم تعييني سكرتيرا للتحرير. وبعد سنة أتاني العرض المدهش بأن أكون رئيس تحرير مجلة أسبوعية عمرها اليوم 90 سنة. حتى في تجربتي الإذاعية، كنت أزور أستاذي في الجامعة زيارة عادية في مكتبه، وكان مدير عام الإذاعة، ولم يتركني أغادر إلا وقد تسلّمت برنامجا أسبوعيا. ثم أتى التلفزيون. كانت مجرد مقابلة مع زياد الرحباني، المفترض أن أنجزها وأعود الى قواعدي سالما. لكن ادارة التلفزيون طلبت مني برنامجا اسبوعيا أساسيا، وخضت التجربة.
الغريب أن كل دوري في هذه النجاحات كان أن أقول "نعم". كانت "ال "نعم" سهلة في العمر الذي نعتقد فيه أننا أقوى من الخيبات والهزائم، أي حين نكون حمقى وأطفالا! لاحقا سأعوض عن تلك ال "نعم" بعشرات اللاءات. تعلّمت قول "لا" بعد نجاتي من سرطان
أصابني في عمر مبكر. وحتى اليوم، لا زلت أتمتع بقول "لا"، لكأن مواجهة الموت بشكل "شخصي" تمنح المرء مناعة تجاه سائر هواجس العيش.
الصحافة مهنة جميلة، تسليت كثيرا، وتعلّمت كثيرا. لكنني أقول اليوم أنها لم تكن مهنتي! لا أحتفظ لسنوات الصحافة بذكرى حقيقية غير ذكرى الصداقات والمؤازرة في الشدائد والتضامن الصادق للنجاح وتجاوز العقبات. أما الإنجازات، فلا انجازات في هذه المهنة، انها تأكل العمر والوقت والجهد، لا أكثر.
"يقول الكاتب اسكندر حبش: في إحدى اشراقات جون كوكتو الجميلة: "ما يريده القارئ هو أن يقرأ نفسه. وحين يقرأ ما يبرهنه، يعتقد أنه تمكن من كتابة الكتاب". لمن كان شابا في بيروت ثمانينات القرن الماضي، لا بد أن يجد نفسه حاضرا. ليست سيرة، بالأحرى "سير" طلال شتوي وحده، بل سيرتنا كلّنا، نحن الذين نتقدّم في الكهولة والصعوبة، صعوبة أن نجد المدينة التي شكّلتنا ورمتنا في شوارعها".
هل أنت غريب الأطوار؟
أجل، أقولها كما لو كنت "هاملت" على خشبة مسرحية. لست اجتماعيا، لكنني أجيد تسويق حضوري وظرفي ورغبة الآخرين في الاقتراب مني.
لا أحب الناس عن قرب. أحبهم كثيرا عن بعد، وأغفر لهم كل الخطايا والذنوب وحتى القبائح! الأنسان "خلطة" تعيسة ولا أطالبه بالكثير لكي أحبّه. عموما أميل إلى الفاشلين والمنكسرين وأفرّ من الناجحين والأقوياء.
لم أحب قريتي أو مدينتي أو مسقط رأسي، كما يفعل الآخرون. أحببت بيروت أكثر. بيروت التي أحبها لم تعد موجودة. بيروت الفوضى والجنون والقسوة والحنان والحرية. انها مغوية الى درجة عدم تصديقها، وفعلا لم تلبث أن تلاشت.
لبيروت وجه فلسطيني، فقدته اليوم. لكنها لم تجد الوجه البديل المقنع. لقد منحتها الثورة الفلسطينية في الستينات والسبعينات مواصفات المدينة العالمية المرتجلة. ارتجلها "أبو عمار" في غرفة مؤثثة بشكل متواضع في حي "الفاكهاني". حتى البقعة الأكثر جاذبية في بيروت، والتي نطلق عليها "جمهورية الجامعة الأميركية"، لم تعرف وهجها الحقيقي إلا في الزمن الفلسطيني، حين كان كل 5 فلسطينيين يستطيعون مع 3 لبنانيين وبعض العرب وأحيانا الأجانب، تشكيل فصيل ثوري له منبره واعلامه وجمهوره وشعاراته.
وحول طباعه الشخصية وأحلامه: لم أحضر أي عرس خلال حياتي. كما لم أحضر أي مأتم غير مأتم أبي. لا علاقة لي بالواجبات. انه طبع بشع لا فكاك منه. بالمقابل، لم يقصدني أحد، سواء كان قريبا أو بعيدا، بأمر ما في استطاعتي تلبيته، ورجع خائبا.
كان لدي حلم واحد، هو أن أعثر على كنز وأتصرف به كما أحب. لقد وضعت الكثير من الخطط لأنفاق ملايين الدولارات، لدرجة أنني كنت أستعين بآلة حاسبة أحيانا. أقول "كان"، لأنني أشعر اليوم لو وجدت هذا الكنز فلن يكون بوسعي خنق الشرور التي قد يتسبب بها في حياة الآخرين. ببساطة، اكتشفت متأخرا أن المال شر حقيقي، حتى لو أنفق صدقة. العلة ليست في المال، بل في البشر للأسف.
بعدك على بالي هو كتاب عودتك؟
كتبت "بعدك على بالي"، بعد انسحاب من الحياة امتد 10 سنوات. كنت أعرف قبل دفعه الى دار النشر أنه كتاب جميل، فأنا لا أجامل نفسي، ولا أغش نفسي. وكررت في مناسبات كثيرة بأنه كتاب عودتي. كنت أقصد العودة الى استئناف الحياة، كما يجب، أو كما يفترض.
حقيقة الأمر أن "بعدك على بالي" ليس سيرة ذاتية، ولا حتى سيرة مهنية كما أروّج! انه أطول نص لشاهدة قبر. لم أكتب تجربتي وحياتي الا لكي أضمن قليلا من البقاء بطريقتي، وليس بطريقة أي مخلوق آخر، حين لا أكون.
لقد فعلتها! حين لن أكون، سيبقى "بعدك على بالي"، وسيقرأه كثيرون، وستصدر طبعات كثيرة منه.
هذا الأمر لا ينطبق على مجموعتي الشعرية التي نشرتها في كتابين، "هذا الأزرق أنا" و"كان يكفي أن نكون معا". لا أعتقد أنني شاعر "يعيش"! بكل حال، أنا أعلنت فور صدور المجموعة أن زيارتي الى الشعر انتهت.
"الكاتب عبد الحليم حمود: يقدّم طلال شتوي في كتابه "بعدك على بالي" مسحا جميلا لزمن جميل ولو كان موشّى بالبارود! حين تقرأه، سيصبح شتوي صديقك! فردا من عائلتك!"
تكتب أن فيروز انتقلت معك في كل المطارح، وأنها الصوت الذي لم يفارقك طول العمر؟
أحب صوت فيروز، أحب إحساسها، صوتها أهم مما غنّته. قد يسبب كلامي هذا صدمة لكثيرين، ولكني ورغم تقديري العالي للأخوين رحباني، الا أن صوت فيروز هو الذي أضاف الى هذا الكلام ما ليس فيه، وليس العكس. تجربة فيروز مع زياد الرحباني أهم وأعمق، وهو أمر ستكتشفه أجيال آتية.
بكل حال، لم تحمل الأغنية العربية في ذروات نجاحاتها حداثة ابداعية في الكلام والشعر. قبل أكثر من نصف قرن غنّى جاك بريل لحبيبته "لا تتركيني"، قال لها: دعيني أكون ظلا لكلبك! هذا الغناء حصل قبل الحداثة بعقدين على الأقل! تحضرني أيضا أغنيته "من أجل قليل من الحنان، أغيّر وجهي، أغيّر لغتي". أين الغناء العربي، قديمه وحديثه، من هذا؟ الأمر ينطبق على الشعر الحديث بشكل صارخ. كل رواد الحداثة سرقوها من تجارب اوروبية، وخصوصا اسبانية، وقدموا تقليدا يفتقر الى الجودة تسبب بهرب الجمهور من الشعر. التعميم هنا لا يعني عدم وجود استثناءات قليلة.
حدّثنا عن طلال السياسي؟
السياسة هوايتي! للأسف أفهم فيها أكثر من المحترفين، وحتما أكثر من المحللين الذين يملؤون الفضائيات العربية. لا أجاهر بذلك، لأن لدي آراء ومواقف متطرفة ستتعبني.
أكتفي بالقول أنني "خشبي" بامتياز، على طريقتي. أحمل لعبد الناصر الكثير من التقدير والود، ولا أجد اسما سواه أضيفه الى لائحتي السياسية لهذا القرن العربي الأسود.
أنا مؤمن بأن العرب هم سبب نكبة فلسطين والشعب الفلسطيني. كل العرب. كما أنني مؤمن بأن الفلسطينيين هم وحدهم اليوم يحملون مشروع مستقبل أفضل للعرب.
المزايدة على الفلسطينيين أمر يتراوح بين الجهل والخبث. أنا من الذين يقولون أن الفلسطينيين هم من يديرون أمر نكبتهم، ويرسمون طريق التحرير، كما يناسبهم ويناسب ظروفهم. هكذا أرى نشأة منظمة التحرير مثلا، وهكذا أرى أوسلو أيضا!
أقول للعرب، "حلّوا" عن ظهور الفلسطينيين، وابنوا دولا وسياسات لا تذبح القضية، لا أكثر، وهم سيكونون ممتنين لكم.
لا بأس أن أضيف بأن المقاومة اللبنانية التي يقودها "حزب الله" منحتني عام 2006 البهجة السياسية اليتيمة في هذا العمر.
التقى شتوي بأبو عمار في إحدى الشقق السرّية في شارع عزمي بطرابلس، في وقت كان فيه 500 صحفي يتمترسون في أحد شوارع الزاهرية بالمدينة، للظفر بتصريح من ياسر عرفات، لكن شتوي كما يقول أنجز "السبق الصافي" الأول، وربما الأهم، في حياته المهنية. أحببت "ابو عمّار"! ومن بوسعه أن يلتقي به ولا يحبّه؟! لقد "سحرني".
وصدر لطلال شتوي، "كان يكفي أن نكون معا" - شعر، و"هذا الأزرق لي"- شعر"، وصدر له في الرواية والسيرة الذاتية: بعدك على بالي، وزمن زياد، والذي صدر مؤخرًا، وجاء في السطر الأول فيه: إن زياد الرحباني يلتقي مع كل إنسان جاء إلى هذه الأرض.