ومن يتهيب صعود الجبال...
تعرف النخب السياسية والحزبية، وينبغي ان تعرف ذلك، ان حسابات السياسة ليست هي حسابات الرغبات العاطفية، وحسابات المسؤولية الوطنية ليست هي حسابات الخطابات الشعبوية التي لا تبحث سوى عن النجومية والتصفيق..!! ونفترض انها تعرف اكثر، ان حسابات الدولة، ليست بالمرة هي حسابات الحزب والجماعة، وثمة مثل شعبي حكيم قال وما زال يقول: ان حسابات السرايا ليست هي حسابات القرايا، واذا كان البعض من عامة الناس يفضلون ما يطرب السمع، ويخاطب العاطفة، فعلى هذه النخب تقع مسؤولية القول الذي يخاطب العقل، اذا ما أرادوا خدمة الصالح العام في هذه المسألة أو تلك، غير انه وعلى ما يبدو ان بعض هذه النخب (ولأسباب مختلفة، بعضها مدفوع الأجر، وبعضها جهل ومكابرة، او خوف وارتباك) لا تريد ان تعرف هذه الفروقات الجوهرية والموضوعية، لا بل انها تتعامى عنها كلما أقدم الرئيس أبو مازن على خطوة استثنائية، في العمل السياسي بخلاصة حنكته وحكمته سوية، وهو ينطلق من حسابات الدولة والمسؤولية الوطنية، ونتحدث بالطبع عن مشاركته في مراسم تشييع "شمعون بيريس"، ودون اية مبالغة فان الرئيس أبو مازن بهذه الخطوة الشجاعة اقتحم أشد مواقع اسرائيل اليمين المتطرف المعادية له، والتي لا هم لها سوى التحريض عليه في كل مناسبة ومكان، وذهب ليكرس حضوره كرئيس لدولة فلسطين، وهو ما حصل (باعتراف ضمني من اسرائيل) عندما أجلسه البروتوكول في المقدمة مع رؤساء الدول الذين حضروا هذه المراسم، بل انه وصل الى موقع هذه المراسم، بسيارته الرئاسية، وكان واحدا من ثلاثة وصلوا على هذا النحو، الرئيس الاميركي "باراك اوباما" والفرنسي "فرنسوا هولاند" بينما بقية المشاركين من الرؤساء والمسؤولين الكبار وصلوا الى موقع المراسم بالحافلات ..!!
اكثر الذين اغتاظوا من وصول الرئيس أبو مازن الى هذه المراسم، كان هو رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، بدليل انه لم يذكر حضوره بأية اشارة، في كلمته التي القاها في مراسم التشييع، في محاولة بائسة منه لتجاهل وجوده، في الوقت الذي كان وجود الرئيس محط انظار وتقدير الجميع في هذه المراسم،الواقع الذي جعل الرئيس الاميركي يشيد بهذا الحضور في كلمته، وكذلك الرئيس الفرنسي والاثنان معا، اكدا ان حضور الرئيس أبو مازن رسالة سلام، ودلالة على ان السلام ما زال ممكنا، فالشريك الفلسطيني حاضر وشجاع وقوي بمثل هذا الحضور.
ومهما يكن، يعرف الفلسطينيون جميعا ان الرئيس أبو مازن لا يبحث عن اية دعاية انتخابية ولا يسعى اليها ولا بأي صورة من الصور، يقتحم الصعب دائما وهمه الأساسي هو تحقيق مكسب جديد للمشروع الوطني، من أجل ان يحقق أهدافه كاملة، ويعرفون ايضا ان طريق الاشتباك السياسي ليست طريقا سهلة، ولا هي معبدة بالزهور، بل هي موحلة غالبا، والمناضلون وحدهم من يقتحمونها، لا يهابون وحلا ولا كلاما معلقا بزعيقه،لان النوايا السليمة والغايات الوطنية العادلة والنبيلة لا تلوثها وحول الاقاويل والتأويلات المشبوهة، ويعرفون اكثر من كذلك ان الرئيس أبو مازن مع حق الاختلاف والاعتراض، بل هو حق مقدس شرط ان يحمل وجهة نظر تحتمل النقاش ولغة لا تعرف التطاول والتشكيك والشتيمة.
يبقى ان نقول ونؤكد ان سياسة حركة التحرر الوطني الفلسطيني، لطالما تعرضت لشتى انواع التشكيك والتكفير والتطاول على صناعها ومتخذي قراراتها الصائبة والشجاعة، ولا أحد ينسى ما قاله الخصوم والاعداء عن الزعيم الخالد ياسر عرفات، كلما كان يحقق خطوة من هذا النوع الجريء والمقدام.
ودعونا نختلف، ولكن باحترام اللغة والعقول والتاريخ، لغة فلسطين، وعقول ابنائها، وتاريخ نضالها الوطني، والأهم بالتفحص العميق لغاية الاختلاف، التي ينبغي دائما ان تخدم المصالح الوطنية العليا، لا مصالح الحزب او الجماعة، او مصالح المال السياسي، او مصالح الرغبات العاطفية العابرة ...!! ويظل دائما اقتحام الصعب كصعود الجبال الوعرة، وتعرفون.. من يتهيب صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر.
كتب: رئيس تحرير صحيفة الحياة الجديدة