دمشق.. مقهى في جنين
يامن نوباني ورشا حرز الله
في مدينة جنين شمال الضفة الغربية، حيث المسافة إلى دمشق 149 كيلومتر، قرر غسان السعدي خلق حالة تشبه حياة مقاهي دمشق، فاشترى بيتا مهملا، تم بناؤه عام 1929 وحوله إلى "مقهى دمشق".
ما أن يلج الداخل إلى المقهى حتى يشعر أنه في عزلة مما وراء خطواته، حيث يمر شارع رئيسي وحيوي، لكن ضوضاء المارة والمركبات يغيب تماما بعد أن تغلق باب دمشق خلفك.
بعد العتبة هبوط درجتين، فيبدأ صوت فيروز يهمس.... على اليمين تتوزع كنبات للجلوس، وشجرة سرو تخرج من أرض الغرفة وتمر عبر السقف الحديدي إلى سماء المكان، علق على جذعها غربال عمره عشرات السنوات.
على اليسار وقبل الدخول من الباب الداخلي للمقهى، أورغ كبير عتيق لا يعمل، وغير بعيد عنه وُضع بيانو كبير وعتيق أيضًا، ما أن تلامسه الأصابع حتى يبدأ بنثر الموسيقى.
فوق الباب الحجري المفتوح دائما علقت صور جمال عبد الناصر وأرنستو جيفارا وشهداء وصور لزعماء وقادة عرب، ما يُوحي منذ البدء ميول صاحب المقهى واتجاهاته الفكرية والسياسية والقومية. بعد الدخول من البوابة تأتي الغرفة الأكبر في المقهى والتي تحوي أكبر عدد من المقاعد والكنبات.
باب آخر مفتوح دائما يُفضي إلى ساحة كبيرة أطلق عليها السعدي "أرض الديار"، مزروعة بعشرات أنواع الشجر والنبات والزينة، ورود معلقة في كل زاوية، وأقواس صممها السعدي لتناسب بيئة المقهى وعتقه. الشمس تسقط على الساحة التي تتوسطها نافورة ماء كبيرة تفضي على المكان سحرا فوق سحره. وتعطي الجالس فرصة لتأمل نفسه والمكان والحياة.
على يسار أرض الديار قاعة أخرى لزبائن المقهى، وهي المكان الأكبر في المقهى، مسقوفة بقشر الشجر، لتناسب بيئة المقهى.
درج يصعد من أرض الديار مزين على آخره بالنباتات والورود، يصل إلى باب علق فوقه: مقهى حلب. وهو قاعة مقهى بداخل مقهى دمشق، يعمل السعدي على انجازها وافتتاحها لتضيف على المكان تنوعا معماريا وفنيا. حيث تشبه بيوت حلب في شبابيكها وبلاطها.
أسقف في كل مكان هندسها السعدي، وبلاط طوّعه ليتفق مع مراده في تحويل المكان إلى العتيق، وخمس نوافير تسكب السكينة مع الماء الهادئ.
ست سنوات قضاها غسان أسيرًا في سجون الاحتلال، في ثماني حالات اعتقال أولها في 1985. في السجن ابتكر السعدي أساليب وحاجيات الرسم بما تسمح له ظروف المعتقل القاسية، وبالأشياء البسيطة جدا التي تقدمها بيئة الأسر، فاستفاد من حبات الرمل في سجن النقب، وحبات العدس والحمص والتمر، وعلف العصافير الحرة، فرسم للحرية.
مضيفا قيامه بمعارض في النرويج، بجهود ذاتيه، وانطلاقه في التسعينيات برفقة مجموعة من الفنانين التشكيليين في جنين، حيث بدأوا أنشطتهم بمعرض في المدينة، تلاه معرض في مدينة القدس. لافتًا إلى أن معارضه في الخارج وخاصة في النرويج جعلته يحتك بفنانين مهمين، مما طور لديه الأدوات والأساليب والاهتمامات.
صحف تعود إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تحمل شؤونا فلسطينية وقومية عربية، ألصقت تحت زجاج الطاولات في عودة لزمن القضايا الكبرى وخاصة القضية الفلسطينية.
أنتيكا في كل مكان، على كل جدار وفي كل زاوية من المقهى، بعضها اشتراها غسان من أسواق الخردة وأخرى أهداه اياها أصدقاؤه، يذكر منهم شاب أهداه مقتنيات جدته التي خرجت بها من حيفا عام النكبة.
ولدت موهبة السعدي في الرسم والفن التشكيلي منذ الصغر، ولم يكمل حلمه بدراسة الفن بسبب الاعتقالات المتكررة، فتعلم ذاتيا، كما ساهمت شبكات التواصل الاجتماعي في زيادة قدراته وخبراته المعرفية حول الفن والبيئة السورية، مما انعكس على انتاجه على أرض الواقع، وسمح له بتقليد المكان كما لو أنه مقهى فعلي في قلب دمشق، رغم أنه لم يزر سوريا.
لم يتوقف السعدي عن اختيار الشكل ليناسب مقاهي دمشق، بل اختار أيضًا بوظة شامية مشهورة وهي "بوظة بكداش" لتكمل دقة الاختيار والحرفية في نقل البيئة، ويرى أن أهل مدينته وزبائنه من خارجها أحبوها بشكل لافت.
يقول السعدي: "الكثير ممن تعلموا ودرسوا في سوريا، يأتون إلى هنا يقولون لي انهم يستعيدون ذكرياتهم في هذا المكان، وحتى يعيشوا الأجواء أحضرت خلطة البوظة الحلبية ومشروب المتة".
ويقول: اختياري للبيئة الشامية، جاء نتيجة لقربها للفلسطينية، وهي بيئة محببة وتلقى اهتماما لدينا، هناك عادات وأسواق وأماكن في مدينة نابلس تتشابه على حد كبير مع سوريا، ولأنني انا شخصيا متأثر بها، وزبائني تفاعلوا مع أجواء المقهى مما دفع بعضهم إلى اقامة سهرات عزف وغناء خفيفة.
ارتبطت الحياة الشامية وأجواؤها في فلسطين بمدينة نابلس وخاصة فيما يتعلق بشكل البناء، فأطلق على المدينة "دمشق الصغرى"، لشدة التقارب بين المدينتين، الأحواش والبيوت العتيقة الواسعة، الأقواس والأزقة المعتمة، الأدراج وأبواب الحارات. من يدخل البلدة القديمة في نابلس يحس انه في دمشق، واليوم من يدخل مقهى غسان السعدي أيضًا يحس بدمشق.
وتشتهر دمشق بانتشار المقاهي في نواحيها، خاصة دمشق القديمة، ولعل أشهرها: مقهى النوفرة، مقهى الروضة، مقهى الهافانا.