أدباء بلا "فيسبوك"
يامن نوباني
لعله قلّص المسافة بين القارئ والكاتب، وجعل حياة الروائيين والشعراء والقاصين والمفكرين أكثر تفاعلية وشهرة، بفعل المتابعة الحثيثة من قبل القارئين والملاحقين لأقلام يحبونها، وانتظار جديدهم. وخلق ذلك التودد الأليف بين كاتب النص والقارئ الذي يشعر أنه يعبر عنه، وأفضى مساحة لدخول القراء عوالم الكُتاب الشخصية، في أي أرضٍ وجدوا.
وعله من جهة أخرى، باعد بين كاتب وقرّاءه بفعل –إن صحت التسمية- التصادم المباشر، ليكتشف القارئ أن الكاتب مختلف عن قلمه، أو يكتشف الكاتب أن علاقته في القارئ ليست جيدة، وبخاصة أولئك الذين يدخلون معه في حوارات ونقاشات عقيمة، إضافة إلى تقليص خصوصية الكاتب، كما يرى بعضهم أنه "ضيّق عليهم".
بين القرب والبعد، بين من يراه منصة لالتقاط لحظة شعرية، وفضاء للتعديل، زيادة أو نقصان في النص، وأداة لقول ما تريد في أي وقت، حادثة أو فكرة يقتنصها من هنا أو هناك، تكتب في لحظتها وربما يترتب عليها عمل أدبي، فضلت أقلية من الأدباء والكتاب أن تبقى بعيدة عن مواقع التواصل الاجتماعي وبالأخص "فيسبوك"، لأسباب تتعلق بالبحث عن مساحتها الشخصية، وحريتها في تأمل الأشياء، والتلذذ في ليل لا يقتحمه أحد.
"وفا" حاورت عددا من أولئك البعيدين عن هذا التفاعل المباشر في "فيسبوك"، وسألتهم عن أسباب هذا الهجران، أو عدم امتلاك حساب شخصي منذ الأساس.
الشاعر والروائي الفلسطيني وليد الشيخ: لماذا ليس لديك حساب في فيسبوك؟
الشيخ: يبدو أنني لا أفهم أهميته جيداً، أو أن لديّ صعوبة في تقبل فكرة انتظار الحكم على ما أكتب، بشكل مباشر. وربما، لأنني سمعت من الأصدقاء قصصا غريبة عن هذا العالم. ويمكن أن يكون السبب بسيط للغاية، أنني لا أحتمل ضجيج هذا الضخ الهائل للأحرف المطبوعة والأفكار والآراء والبطولات والصور. شيء لا أفهمه منعني من فتح الباب.
أحسّ أن عدم دخولي عالم الفيسبوك (حتى الآن) سيضاف الى الأشياء التي سأندم في المستقبل على عدم ارتكابها.
الشاعر والكاتب الفلسطيني باسم النبريص: في الواقع، أنا لم أهجر الفيسبوك، بل لا علاقة لي به أصلاً. فكل تجربتي معه لم تتعدَّ دقائق. أنشأت صفحة في الماضي ودخلتها مرة واحدة ليس إلا، ولم ترُقني التجربة بعد ذلك، فتركتها. والآن يُدير حسابي ابني أحمد، كما أخبرني. فقط أتعامل مع البريد الإلكتروني، وأمرّ عليه حسب التساهيل وليس بشكل دائم، ويكاد يكون للعمل وخاصة الأصدقاء فحسب.
باختصار هذا العالم الافتراضي لا يروقني، رغم ضرورته، تماماً مثل الجوال الذي اضطررت لاستخدامه في برشلونة لضرورات العمل والعائلة. وحتى اللحظة استخدم الجوال للرد على المكالمات، ونادراً جداً ما اتصل بأحد، حيث أنقل الرقم عن ورقة.
ليس معنى هذا أنني منقطع عن وسائل الاتصال الأخرى، فأنا متابع بقدر ما يسمح الوقت للصفحات الثقافية العربية، خصوصاً وقد حُرمت هنا بشكل مؤلم من الكتاب الورقي.
الكاتب اللبناني عبده وازن يصرّ على عدم دخول عالم "فيسبوك"، معبرا عن ذلك في مقال له: يكفيني الإنترنت والإيميل للتواصل مع العالم والأصدقاء من بعيد، ووفق الإيقاع الذي يحلو لي. لست متخلفاً إزاء وسائل التواصل الحديثة، وليس لدي رهاب الارتماء في بحر الفيسبوك المتلاطم الأمواج. لكنني كلما سعيت الى الالتحاق بصفوف الفيسبوكيين، أشعر بأنني على خطوة من هاوية العبث والعبثية. شخصياً، لا أحتاج الى هذا التواصل المنفتح أيّما انفتاح على الآخرين الذين هم الآخرون بلا مواصفات أو معايير. لا يبقى الأمر وقفاً على بضعة أصدقاء يتم تبادل لعبة التواصل معهم. في عالم الفيسبوك، إما تكون فيسبوكيا حقيقياً وملتزماً أو لا تكون، وإلا فأنت لا تحتاج الى ما هو أكثر من الإيميل. جدار الفيسبوك أشبه بجبهة مفتوحة لا يمكنك الهروب منها والتخلّي عن موقعك. يصبح التواصل هذا عادة يومية قاتلة وإدمانا يشبه الإدمان على التدخين والشراب. أعرف صديقاً يمضي أمام الشاشة نحو اثنتي عشرة ساعة يومياً، وآخر يمضي قسطاً طويلاً من الليل سهراناً مع أصدقائه البعيدين في جلسة فيسبوكية ملؤها التسلية وتبادل النكات والصور... طبعاً، بضعة أصدقاء آخرين يمضون في نقاشات ثقافية مهمة، لكن متقطعة، فهم ليسوا وجهاً لوجه مهما قرّب الفيسبوك بينهم.
ولعلّ من حسنات الفيسبوك القليلة في نظري، التواصل من صميم العزلة الشخصية. أنا وحدي أمام الشاشة وأنت وحدك، لكننا نتواصل. أنت لا تكسر عزلتي ولا أنا أكسر عزلتك. تواصَل معي ولكن من بعيد، لا تقترب، لا صبر لدي لأحتمل وجودك. لكنّ تواصلنا المتوهم هذا لا يعني أننا مفترقان، أنت هنا وأنا هنا، في غرفة افتراضية، ونحن الاثنان منصرفان واحدنا الى الآخر، نضيع وقتنا معاً أو لعلنا نربح وقتنا معاً.
ويمكن الاعتراف أيضاً، بحسنة أخرى للفيسبوك في نظري، وهي الفرصة التي يتيحها لك كي تستعيد أصدقاء لك من الماضي البعيد، أيام الدراسة الابتدائية أو الثانوية، فإذا بك تُفاجأ بهم كيف أضحوا وأين أمسوا، فتفرح لبعضهم وتندم لاستعادة بعضهم، نتيجة خيبتك منهم ومن المصير الذي آلوا إليه. لكنّ الأجمل أن تلتقي عبر الفيسبوك فتاة كنت تحبها قبل ثلاثين عاماً وأكثر، فيطرق قلبك لمرأى صورتها ولو أنها كبرت مثلك أيضاً.
ولعل نظرة ورأي الفيلسوف والكاتب الايطالي امبرتو ايكو، كان الأشد حدة وتطرفا، فقال في وسائل التواصل الاجتماعي: إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».
بينما ترى الروائية السورية مها الحسن، أن الفيسبوك وفّر الحصول على المعلومة الأدبية فور ظهورها. فالكثير من أخبار مرض الكتاب العرب ووفاتهم، عرفناها عبر الفيسبوك، من أصدقاء مقربين من الكاتب ذاته. إضافة إلى أن الكثيرين من الكتّاب يضعون أيضا أخبار إصداراتهم، فالكاتب الذي تصله لوحة غلاف كتابه، من دار النشر، قبل طبعه والذي يذهب ببطء إلى الأقسام الثقافية للصحف والمجلات الأدبية أو المنوعة، يضع لوحة الغلاف على الصفحة، ليحصل في دقائق على عشرات، ثم مئات القرّاء المطلعين على آخر إصدارته.