المحرر عويضة كلاب... فرحة الحرية تعيد عقله وتنهض ذاكرته من جديد بعد أن أفقدتها السنين
هدى أبو قينص-قد تكون رواية هذه العائلة فيلم أبطاله رجال دفعوا الثمن غالياً، فتحقق بعد سنين نفضت عنها الغبار، ليعود الأب بعد 24 عاماً من الغياب وتتجدد لحظات العناق ودفئ الحنان المعدوم بسبب السجان...هي حكاية أسير غيبته السجون عن نجله ووطنه وأثقلته أوجاع العذاب جراء العزل والفقدان فعاد غريباً بين أحبائه ناسياً كل شيء، لكن الفرحة واللمة أعادت الذكريات الجميلة التي غطاها غبار الزمن فتصبح حياة السحن هي ذكرى الحكايات الأليمة.
السطور التالية تروي معاناة أب مغيب وابن محروم وفرحة لقاء سمته الغرابة ولمة مذاقها السعادة:
لحظة اللقاء
عاد المحرر عويضة كُلاب "48عاما" إلى أهله وأبناء حيه تاركاً الآلاف من القصص المختلفة التي لاتزال تحت سقف سجون الاحتلال المعتمة، وأتى بحكايته التي تعكس مرارة الظلم في زنازين السجان الإسرائيلي، حيث هي قصة مؤلمة عاشها خلال أكثر من عشرين عاماً في زنازين العزل الانفرادي ذاق بها أشكال مختلفة من التعذيب والآلام والأوجاع التي لا تزال آثارها حتى يومنا هذا في جسده .
استقبلنا نجله البكر عاصف داخل منزلهم البسيط الكائن في حي الشيخ رضوان، الذي غابت عنه الفرحة منذ سنين وعادت إليهم من جديد فرحة بعودة الأب الغائب، ولكن بحال آخر جراء التعذيب اللانساني الذي تعرض له، حيث أصبح يعاني من مرض نفسي أفقده عقله في تلك المدة، الأمر الذي جعل لحظة اللقاء مع نجله حكاية مؤلمة أبكت من حوله.
يصف عاصف لحظة اللقاء بيوم العرس الوطني الذي عاد به الأسرى إلى ذويهم بعد سنين من الغياب قائلاً:" كنت في أشد الانتظار لرؤية والدي شعرت أنني في لحظات خيالية وحقيقة في آن واحد أي أنني سألتقي مع والدي الذي لم أراه طوال حياتي بنفس الوقت لم أكن أصدق، وحينما رأيت الباصات بدأت بالبحث من باص لآخر إلى أن دخلت الباص الذي يركب به والدي وحين أخبروني أن هذا الرجل والدك أسرعت إليه لأقبله".
" عانقته وقبلته لكنه كان ينظر إلي نظرات غريبة، فامتزجت مشاعري بالحزن على حاله والفرح بلقائه، لقد كان والدي مصاب بحالة من الصدمة حيث نظراته غريبة كأنه يحاول أن يتذكر أن له ابنا لكن الأمر كان صعباً عليه، وخاصة وضعه الصحي المؤلم جراء التعذيب والعزل الذي أفقده ذاكرته، فأخبره الموجودون أنني ابنه ولا أنسى نظراته واندهاشه الغريب".
بعد أن كان الأسير كلاب في حالة توتر وحالة نفسية مضطربة وبعد أن اندمج مع الأهل والأقارب والجيران والأحبة المهنئين بدأت ذاكرته تعود قليلا، شيئاً فشيئاً إلى أن استعاد ذاكرته وتحسن وضعه النفسي حيث يوضح الابن أن للأهل والجيران والأحباب دور كبير في ذلك.
ويشير إلى أن والده في بداية الأمر لم يكن طبيعيا ليتمكن من الخروج لوحده بسبب حالته الصعبة لكنه تحسن وأصبح يميز بين الناس، لاسيما أنه يتلقى العلاج النفسي والجسدي والمتابعة الصحية التي كانت مفقودة داخل السجن.
يحاول الابن أن يقص لنا الكثير من المواقف الغريبة التي حدثت بعد عودة والده، مبيناً أن والده عاد غريباً بين أهله وفي بيته وكأنه أتى ليعيش بين أناس غرباء ولم يتمكن من الاندماج معهم، ناهيك عن عدم تقبله للطعام والشراب في بداية الأمر حيث تكررت حالة التقيء والشعور بالضعف والهزال مما أقلق العائلة.
عاش وحيداً
في حديثه معنا صمت قليلاً وأبى أن يحدثنا عن معاناته كإبن حرم من والده منذ طفولته ووجع الوحدة التي عاشها خلال فترة غياب والده، يقول:" منذ أسر والدي تحملت الكثير وذقت مرارة اليتم رغم أن والدي حي يرزق، كثيراً ما ألمني غياب الأب وفقدان الأم وعشت طفولة غريبة لكنها كثيرة وسط شعبنا".
يضيف:" رغم كل من حولي وعدم تقصير أعمامي وأقاربي بي لكن كنت أشعر بالوحدة، فحياتي هي سنين من العذاب والجرح الذي يلتئم اليوم، فما أصعب أن تعيش حراً ووالدك مغيباً عنك ليس بإرادته أو أن تعلم بمرضه ولن تتمكن من تقديم شيء له".
بكاء في الطفولة
عاد الابن إلى الوراء قليلاً ليحكي لنا عما يتذكره في طفولته وعما سمع عنه بداية اعتقال والده، حيث كان مولوداً لا يتجاوز الأربعين يوم من عمره وكبر في حضن جدته التي طالما انتظرت ولدها لكن الموت كان أسبق لها، ليبقى الابن وحيداً يبكي غياب الأب الحي وغياب الجدة الراحلة، يروي حكايته:" بعد رحيل جدتي انتقلت للعيش في بيت أعمامي وكم كان خيالي يسرح بعيداً تفكيراً في حالي وحال والدي البعيد، حيث شعرت بغياب أبي وأدركت معنى الأبوة وما معنى أن يعيش الأب وأولاده تحت سقف واحد ولا أنكر المعاملة الحسنة التي تلقيتها من أعمامي".
كبر عاصف وفتح بيتا وأصبحت له زوجة ورزقه الله بطفلين البكر منه أسماه عويضة إحياء لاسم والده الذي لم ينساه والذي أصبح الشوق له حقيقة .
ولم يتسنى الحديث لزوجة عاصف التي عبرت عن مدى سعادتها وفرحتها برجوع عمها والد زوجها وعاد سنداً لزوجها الذي غابت عنه أيام الفرح والهناء والحضن الدافئ، تقول:" اليوم شعرنا بدفء الأسرة وذقنا طعم الحنان المفقود منذ سنين طويلة".
لم تمنع عودة الأب وتنسمه هواء الحرية مشاركة الابن عاصف في الفعاليات والاعتصامات التي ينظمها الصليب الاحمر والجهات المختصة تضامناً ومطالبة بحقوق الأسرى، حيث يذكر أن آخر موقف تعرض له حينما ذهب للاعتصام في الصليب الاحمر والجميع عبروا عن استغرابهم وقال له البعض إن والدك خرج وتحرر فلماذا أنت هنا؟.
يقول عاصف: " سأواصل المشاركة في الفعاليات وسأبقى كما أنا طالما أن هناك أسيرا واحدا خلف القضبان ،لأن تجربة والدي جعلتني أشعر بالعذاب الذي يشعر به أبناء شعبي المغيبين خلف القضبان" .
الأسير عويضة كان قد اعتقل في 12 / 10 / 1988م بتهمة تنفيذ عمليات عسكرية استهدفت تفجير جيب وباص اسرائيلي بالمشاركة مع مجموعة أدت إلى مقتل جنود اسرائيليين وعلى اثرها تم اعتقال كلاب اثناء التنفيذ وتم الحكم عليه بالمؤبد .
وقد قصفت قوات الاحتلال مزله وتشتتت عائلته ،حيث عاشوا عيشة الخيام بينما الأب غاب خلف القضبان.
وهكذا ألف السجن رواية فصولها معاناة أب خلف الأسلاك وحرمان طفله الوحيد تحت سقف الحرية ليكبر فيعود الأب ليرى وليده ابن الأربعون يوماً شاباً يافعاً برفقة زوجته وطفليه، فتكون الخاتمة عودة الفرحة بعد سنين من الظلم والعذاب والحرمان.