"رامبير".. حفلة الخطايا المتنكرة
نداء عوينة
"ليس هناك ما تخشاه أفرِغ ما في جعبتك المليئة بالحكايات لتنشرها أمام الشمس والناس، ولا تُخفي شيئاً منها.. ليكن الوَعْد الذي تقطعه على نفسك أمام نفسك، وكأنّك أقسمت بالله العظيم ألّا توفّر حرفاً واحداً، بل ستدلح كلّ ما في صدرك، كما هو، دون تزويقٍ أو حذفٍ أو إضافةٍ أو انتقاء أو قطْعٍ أو مواربةٍ أو غير ذلك..."
إذا ما أخرجنا هذه الفقرة من سياقها الروائي، نجد فيها وصفة روحية للراحة، حتى نكتشف أنها جزء من جلسات التحقيق، مع أبي مطيع، القهوجي المسكين، البطل الوحيد في الرواية الجديدة للكاتب والشاعر المتوكل طه، "حفلة تنكرية-رامبير".
"أريدك أن تستريح على هذا المقعد، ألقِ بنفسك واسترخِ بشكلٍ تامّ، دعْ عنك همومك وسنوات الكدّ وذكريات الكائنات التي بنت أصنامها على قمم الجبال، والمرأة التي تهوي من القمة العالية ومن الجثث التي اختفت، أُريدك أن تتحدث بصفاء..".
الرواية الصادرة في آب 2016، سرمدية زمنياً، غير محدودة مكانياً، مبهمة الجغرافيا، والتاريخ، حتى أن صورة غلافها مجهولة الهوية، مصدرها المؤلف، تحمل كوناً مناهضاً لكل أشكال الفضيلة، ديستوبيّة بما يكفي لإزاحة النظر عن احتمال المقارنة مع الواقع، سوداء لدرجة تخيّل لنا الواقع فاضلاً، مضحكة، بسخرية مرّة صادمة وآثمة.
بنيوياً تقع الرواية في ثلاثة أبعاد: البعد الروائي والبعد الوصفي- الاستذكاري، والبعد الثالث في الزمن الحقيقي للراوية، بين هذه الأبعاد الثلاثة ينتقل القارئ منهمكاً بتفاصيل غاضبة، فضائحية، يكاد يضيع فيها لولا بعض الدلائل التي تعيده إلى خط الحبكة الرئيسي بسهولة، فتتقارب وتتباعد الرؤى إلى أن نصل إلى الهلوسات، هناك يخرج الخط المنطقي للرواية إلى مشهدية استرجاعية بأسلوب "الفلاش باك" ثم إلى الهلوسات المبهمة، تختلف أسماء الشخوص، ومضامينها، لكن المشهد واحد: مشهد التحقيق تحت التعذيب، تمني الموت، والحرمان منه.
ترتكز الرواية في أسلوبها على مونولوج سرديّ مطول، يبدأ في نقطة زمان-مكانية وينتهي بها نفسها في دائرة مكتملة، تبدأ وتنتهي بالخديعة؛ "لقد ضحكوا علينا". غير أن هذه الدائرة أقطابها متعددة، فلو رسمناها رياضياً لتقاطعت في مكانين؛ قصة رامبير البلد وقصة رامبير الحكاية، والفيصل بين الجغرافيتين أبو مطيع وأبو مصعب الإسخاري، ربما هما فيصلان بنيويان في الرواية، وربما هما مرآة للشيء وضده، للخطيئة المقنعة والبراءة المقنعة، فكل شيء في رامبير قناع، وكل الطغيان فيها وهن.
يقع القارئ لرواية رامبير في دوامة مفتوحة تديّره بين عدمية العيش في المدينة وانعدام المعيار الأخلاقي فيها، بعيداً كل البعد عن رداءة المشهد الطبيعي، والاجتماعي، والسياسي، فالسؤال الحقيقي هناك هو السؤال الأخلاقي، كيف تعرّف المدينة أخلاق سكانها؟ وكيف يولّى عليها كما كان من فيها؟
لنعرّف رامبير المدينة إذن: رامبير عالم من الرداءة، متكامل ومترابط، ترى فيه الرداءة كلها، ليس ثمة محظور لا يُفعَل، ليس ثمة خطيئة لا ترتكب، ليس ثمة رذيلة غائبة... رامبير فقط مدينة عائبة، لا تتشح بأوسمة ليبرالية، ولا يتحصّل فيها رادع – ولا أي رادع... رامبير أيضاً خُسِفَت، بعد الحفلة التنكرية بقليل، في رمزية للخطيئة، بل لِكَم الخطايا اللانهائي الذي يرتكب فيها.
لا يتوانى د.المتوكل طه عن سرد كافة المحظورات التي تقع في مدن الخطايا، ومنها رامبير، من عمى أبناء الدكتاتوريات، إلى إعطاء المخدرات القسري والاتّجار بالنساء وبالدين، والإهمال والاعتقال والاختطاف على خلفية الرأي والتعذيب في أقبية التحقيق وحبك المؤامرات وتزوير التاريخ والانتهاك والابتزاز والرشوة، والاحتيال والشعوذة... لم يترك د. المتوكل طه محظوراً إلا وكسره، باللغة أو بالمضمون أو بالطرح، شرحه شرحاً وافياً مستفيضاً بليغاً، مستظهراً الأمراض الاجتماعية والسياسية الناتجة عن الفقر والجهل والحرمان.
كيف أمكن للكاتب خلق هذه الحالة من السواد، وجعلها تحبل ببعض البشريات التي رغم ندرتها في الرواية، تحمل نقداً اجتماعياً صارخاً يحارب الوصمة المجتمعية على النساء الواقعات في ظروف لئيمة، نرى هنا مشاهدتين: الأولى هي فكرة الأمومة كدواء قداسيّ عندما وضعت "المجنونة" طفلاً فشفي عقلها، وبقي وصف الزانية يلاحقها حتى البداية التي وعدها بها الكاتب إذ ينتصر لها حينما يقول مندفعا بتكوينه الشعري الجزل:
"سوف تبكي على كتفي، كلّما مرّ فيها السحاب. قلتُ: لا وقت للدمع، قومي إلى صفحةٍ في الكتاب، هناك على أول السطر يبكي الملائكة الطاهرون، ومن خلفهم أُمّة في العذاب. هنا أو هناك جموعٌ من الذاهبين إلى الموت، برّاً وبحراً، وقصفا وحرقاً، بكل الأيادي والطائرات، وما من خلاصٍ سوى أن نعود إلى الأُمهات، ونسأل عن أُغنيات الرحيل لندفنها ثم نطلق أغنيةً للبقاءِ على تلّة الذّبْحِ، حتى يقول الذي ماتَ: عدتُ، وهذي البداية نحو الحياة".
والمشاهدة الثانية انتصار ضمنيّ لزوجة الشهيد التي تستدرج نحو الدعارة، بإيضاح فقدان الخيارات، والفرص، فالمرأة في رامبير شيء ليس لها صوت وليس لها قول، لها صورة واستخدام، هي شيء لا يقلّ عن المدينة إنهاكاً وانتهاكاً، لكن لرامبير حسرة، والمرأة ليس لها شيء، ليس لها شيء حتى نجد أن وراء الحكاية كلها امرأة، وأن رامبير حاكتها امرأة بكيد خالص، إلى أن خرجت من سياق العلاج النفسي إلى نصّ يصلح لأن يكون رواية حسب رأي الناقد في زمن الرواية الحقيقي.
حين تقرأ رواية حفلة تنكرية، تشعر بأنك بدأت تفقد الفرق بين الواقع والهلوسة، تفقد حقيقةً الحاجز الهلامي الكامن بين الزمن الحقيقي والزمن المتخيل، فما إن تبدأ رحلتك في رامبير حتى تشعر بقرب انتهائها، وانتهائك معها، كلّ ما هو عكس الفضيلة هناك في رامبير، وكلّ ما هو عكس المتوقّع هناك في الرواية، فلا يوجد بطلٌ في رامبير، ولا في الرواية، ليس سوى أبو مطيع الذي يتسبب بالمصيبة التي تفتح جميع المصائب، فتبدأ إسقاطات القارئ على واقعيْه الخاص والعام.
نجد في الرواية أن اسم "أبو مصعب الإسخاري" يتكرر بشكل يختلف عن بقية الأسماء، فهو المشعوذ الذي أوقع نساء رامبير في حبائله، حتى وقع في حب امرأة واحدة، دهنها بماء العسل، هي امرأة الرجل الأول في المدينة. الإسخاري هذا هو أحد ألغاز الرواية التي يصعب حلها حتى المفاجأة الأخيرة، وكذلك أبو مطيع.
السرد هنا لا يحمل زخم اكتشاف الأحجية، لكن المفاجأة الحقيقية تكمن في الكشف الأخير عن أن مريم الشواهدي-الكاتبة والضحية هي ذاتها المشعوذ الإسخاري وذاتها أيضاً أبو مطيع الذي وضع العشبة الضارة في مشروبات مجلس الإدارة في الحفلة التنكرية. هنا ينشأ سؤال آخر، بعد تكشّف الرواية عن رواية أخرى بداخلها، هل تشييء البشر صنيعة المنظومة، أم صنيعة البشر ذاتهم، فكما تعرّي الكتابة كتابها، يعرّي البشر منظوماتهم الأخلاقية التي يعرّيها السلوك البشري الغرائزي الصرف، وسؤال ثانٍ بعد، هل تحوّل الكاتبة المرأة إلى رجل باسمها المستعار وبشخصيتها المنفصمة دلالة على نقصان الطاقة الأنثى في المكان، وفي المرحلة، هل يقول لنا الكاتب إن الهوية لم تعد تصنع فرقاً، فالقهر المتحصل هو صناعة الجميع وواقع على الجميع بذات الوقت.
توحّد شخصيات الرواية في واحدة، وانصباب أحداث الرواية في هلوسة واحدة، تغيّر فهم القارئ للكتاب، فيعيد التفكير فيه من البداية. النهاية الصادمة كانت أن رامبير واقعاً خيالياً يحمل عدة انفصامات لشخصية واحدة، كل ما تصدقه كذب، وكل ما تعتقده وهم، حتى الحفلة التنكرية، والخسف، ورائحة المدينة البشعة وغنج الآنسة مايسة، وكل ذلك، كله ضلالة، رامبير لم تكن يوماً سوى حفلة تنكرية وكل ما دون ذلك من تفاصيل هو مجرد هلوسات وجدنا أنفسنا بها، بعد أن ضحكوا علينا.
حفلة تنكرية-رامبير رواية تفوق الواقع وتفوق المتخيّل، طرحها يضع تساؤلاً ومساءلات على المستويين البشري والإنساني وصناعتهما والفرق بينهما، يشوب منظومة السواد بعض الدفء الذي يترك مساحة للتساؤل الأخلاقي عن حالة ساخرة، معتمة، ومضحكة من شدة الشر الذي فيها.
تقع رواية رامبير-حفلة تنكرية في مئة وستين صفحة من القطع المتوسط وصدرت في آب 2016 عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، وصمم غلافها الشاعر زهير أبو شايب.
المتوكل طه نزال شاعر وروائي فلسطيني ولد عام 1958 في مدينة قلقيلية، يحمل درجتي الماجستير والدكتوراة في الأدب والنقد، رأس اتحاد الكتاب الفلسطينيين بين عامي 1987 و1995، أسس بيت الشعر الفلسطيني عام 1998، عمل وكيلاً لوزارة الإعلام ويعمل الآن في وزارة الخارجية الفلسطينية برتبة سفير. له العديد من الكتب والدراسات في الشعر والنثر والنقد والأدب، نشر ديوانه الشعري الأول مواسم الموت والحياة عام 1987 وروايته الأولى نساء أويا عام 2014. وقد حاز د. المتوكل طه على عدة جوائز نذكر منها جائزة “سوق عكاظ" مسابقة الشعر على مستوى فلسطين، جامعة بيرزيت 1983، وجائزة الشعر "جائزة الشاعر عبد الرحيم محمود" القدس 1990، وجائزة الحرية، وزارة شؤون الأسرى والمحررين - فلسطين 2010، وجائزة أفضل كتاب عن القدس عاصمة للثقافة العربية 2009، عن كتاب "نصوص إيلياء ويبوس"، وجائزة أفضل قصيدة عن القدس من مؤسسة البابطين، بيت مال القدس - الرباط - المغرب 2009.
ــــ