نسرين وياسمين ونعيمة: "شيفرة" طوباس
خصصت وزارة الإعلام في طوباس والأغوار الشمالية الحلقة (53) ضمن سلسلة "أصوات من طوباس"، لمسيرة المعلمات الثلاث اللائي ينافسن على لقب أفضل معلم في العالم، ويشغلن أماكن ضمن قائمة الخمسين الطويلة التي رشحتها وزارة التربية والتعليم العالي في محافظات الوطن.
تقف المربيات: نسرين محمود دراغمة، وياسمين محمود قراعنة، ونعيمة عبد العزيز بني عودة، خلف وردة خضراء في يوم خريفي مبلل بقطرات المطر، ليتبادلن أطراف الحديث، ولينسجن رحلة أحلام تشق الطريق نحو لقب أفضل معلم في الأرض. ويقدمن عبارات استهلالية مشابهة: يكفي أن نتسابق في منافسة عالمية ونستعرض تجربتنا التربوية، لا نفكر في المال وعيننا على استثمار الجائزة الموعودة في تطوير مدارسنا، ونؤمن أننا نمتلك تجربة تستحق أن تصل الناس، حتى لو غادرنا القائمة في جولاتها الأولى.
سيدة الفيزياء
تختار نسرين، المولودة في العام 1973، الانحياز لبداية أحلامها، فتروي: نشأت في أسرة مغرمة بالفيزياء والكيمياء، وشجعنا والدي لإكمال تعليمنا، واليوم أعلّم الفيزياء في طوباس الثانوية للبنات، وتشاركني أختي ربى المادة نفسها في بيرزيت الثانوية، ومثلنا صفاء في بنات عقابا الثانوية، وأختنا رانيا اختارت الكيمياء، ومثلها فعل بلال، وانتقى معاذ الهندسة الكيماوية، وواكبت سهاد تكنولوجيا المعلومات، وانحازت منار للرياضيات.
بدأت مسيرة دراغمة عام 1991، حين أرادت إكمال تعليمها في الفرع العلمي، لكنها اصطدمت بعدم وجود ذلك في مدينتها، فانتقلت وصديقاتها فائدة وريما إلى "العائشية" بنابلس، وبفعل إغلاق المدارس خلال انتفاضة العام 1987 نصحتها المعلمات بالعودة إلى الفرع الأدبي لصعوبة الفيزياء، وأثبتت العكس وصارت اللامعة من بين تلميذات المربية نجمة الصالح (رحلت قبل سنوات)، وبدأت بحصاد علامات كاملة.
تكمل: بدأت منذ التحافي بالتدريس عام 1998 نقل شغف الفيزياء إلى طالباتي، ورحت أحوّل المادة التي يُشاع أنها صعبة، إلى مساحة للمرح، وأصبحت طالباتي ينتظرن حصتي بشوق، وأنقل إليهن في كل مرة المعلومة بمرح، وأتعامل معهن كزميلاتي وصديقاتي وبناتي، واستطاعت 15 منهن الحصول على علامة كاملة في فيزياء "التوجيهي".
تأثرت نسرين بوالدها أستاذ التاريخ، والمغرم بالكتب: قراءة وجمعا وتوثيقا، وكانت تمضي وقتا في التجوال بمكتبة المنزل، ولا تنسى الأعداد المتراكمة من مجلة "العربي" الكويتية ذائعة الصيت. أما والدتها علياء عنبوسي، فلم يحالفها الحظ في التعليم، ورغم ذلك حرصت على تشجيع الأبناء.
تقول: أقدم كل سنة ندوة علمية للطالبات، وأوجه الدعوة إلى أساتذة وخبراء ومهتمين، وفي كل مرة نثبت شيئًا جديدًا في العلوم، فقدمنا البراهين على أن الكعبة مركز الأرض، والشمس تبدل أقطابها كل 11 سنة وهي تمشي وليست ساكنة، وتتبعنا حقائق حول طبقة الأوزون، وأستضيف كل فصل الدكتور رياض صوافطة المتبحر في الفيزياء النووية (مولود في طوباس ويعمل ويقيم في الولايات المتحدة)، وقدّم لنا محاضرات حول "النانوتكنولجي"، وهو العلم الذي يوفّر منتجات من مواد تكاد تكون صفرًا في تكلفتها. كما أجري تجارب من خامات البيئة، وأعمل في النادي العلمي بمدرستنا، ودشنت دفيئة زراعية على سطح المدرسة أنتجت البندورة ونستعد لجولة فاصولياء.
ساحرة العلوم
فيما تبوح ياسمين قراعنة: أحببت منذ طفولتي التي بدأت عام 1985 العلوم، وتأثرت بوالدتي فتحية فحماوي التي كانت تبتكر وسائل خاصة لتدريس الطلبة السعوديين للمعرفة الجافة، وتنقلت في دراستي بين الرياض وعمّان وطولكرم، وبدأت اقترب من الأطفال وأحب تعليمهم، وأغرس فيهم الشوق للصف والمدرسة، وأقدم لهم المعرفة برسوم كرتونية وقصص، وأغير لهم من بيئة الصف.
كدّت ياسمين في مدرسة تياسير المختلطة، وسارت في طريق تدريس فريد صممته بنفسها، يستند على تحويل المادة المُملة بنظر الكثيرين، إلى شعلة مرح وحيوية، يتخللها الرسم واللعب، ولا تبتعد عن توظيف التكنولوجيا، وتمنح الصغار فرصة التحول إلى معلمين لرفاقهم. لا توفر فرصة حدوث ظاهرة طبيعية إلا وتقدمها للأطفال، فهي قطعت الإذاعة المدرسية غير مرة لشرح انكسار الضوء الماثل في الغيوم، أو الأصوات والرياح والأشجار، لتصير المعلومات لصيقة بكل طفل، يتذكرها حين ترد في درس العلوم بمفهوم نظري.
تروي: صنعت للطلبة بيئة جاذبة، واخترت شخصيات كرتونية ورسومات محببة لتكون روح الوسائل التعليمية، فغّيرت من شكل الصف، وغلّفت المقاعد بأشكال تناسب الصغار، وبدأت أنقل كل درس إلى الحاسوب وأحوله إلى محاضرة ممتعة، بصور ورسوم وأفلام، ثم نقلت المهمة للتلاميذ فصاروا مثل المعلمين يشرحون لزملائهم الدرس، وأقدم المعلومات على شكل مسابقة.
أصبح طلبة ياسمين وطالباتها في الصفين الثالث والرابع ينتظرون دروس العلوم، ويتضايقون لعدم وجودها، ولا يملون من موقعها حتى لو كانت في "الخامسة" أو "السادسة" ضمن الجدول، وإن جاءت بعد الدوام.
تضيف: ذات سنة، عانينا نقص الغرف الصفية، واضطررنا لتحويل المخزن القديم إلى شعبة جديدة، فحولته إلى فضاء جميل كله رسوم ووسائل مبتكرة، تفتح شهية الطلبة للتعلم واستقبال المعارف الجديدة.
تنهي ياسمين، التي تدير اليوم أساسية طمون المختلطة: أعرف أن المنافسة ليست سهلة، ولكن أمنيتي أن يبتسم الحظ لي، لبناء مدرسة بنظام خاص ومختلف، تكون صديقة للطفل، وتوفر له كل شيء يحلم به لإتمام دراسته، والتفاعل مع معلمته ومواده، واللعب والضحك، والتمثيل، وتربطه بالتكنولوجيا، وتحوله إلى معلم ومتعلم في وقت واحد، وتصنع فيه الشوق والحنين الدائم للعودة إلى المدرسة، ويحزن لانتهاء اليوم التعليمي.
مروضة الكيمياء
أما نعيمة بني عودة، فتنسج تأثرها بوالديها، فأمها فاطمة بشارات لم يسعفها الحظ للقراءة والكتابة، لكنها كانت تحفظ أشكال الكتب وتميز المدرسي منها عن الروايات والمطالعات التي احتوتها مكتبة الأب. فيما طوّرت الابنة تحايلها فصارت تُخفي الراوية في قلب المنهاج، وتتظاهر باندماجها مع دروسها. أما والدها فكان شديد الذكاء، لدرجة أن غاب شهرين عن المدرسة، وحينما عاد استطاع حل مسائل رياضيات معقدة أخفق فيها رفاقه، فقررت التربية والتعليم ترفيعه إلى صف أكبر، ثم أقنعه والده محمد بترك العلم ومساعدته في متابعة أراضي في وادي اليابس بالأردن، وأسس مكتبة في المنزل.
تسرد: لمّا شعر والدي بخسارة التعليم، قرّر منحنا كل ما حُرم منه، فخالف كل العادات الشائعة ضد تعليم البنات، وباع أجزاءً من أرضه لنكمل التعليم، وكنا أول من يتابع صفوفه في نابلس، ثم انتقلنا إلى جامعات الأردن، فالتحقت أنا وأختي نعمات عامي 1982 و1983 بجامعة اليرموك واختارت لبنى التمريض، وتبعتنا أنعام بعد عامين، وأغلق أذنيه عن كل ما كان يقال ضد تعليم البنات في بلدتنا طمون. أما اخوتي فانتقى طارق الهندسة الذرية وحاز لقب الدكتوراه ويعمل في ألمانيا، ولحق به فادي في ماجستير الأدوات الدقيقة، واختار عمر التجارة، وبلال التكنولوجيا، ومحمد الصحافة.
مما لا تنساه الراوية، كيف أن مكتبة والدها أثرت في تشكيل معرفتها، فكانت تقرأ السياسة والشعر والجغرافيا والروايات والمجلات، مثل "العربي" و"المختار"، واطلعت على أعمال نجيب محفوظ، وتتبعت سيرة هتلر ورومل (ثعلب الصحراء) وقادة ومشاهير كثر. ولا تغفل عن صعوبة التواصل مع عائلتها خلال الدراسة، فكانت تنتظر رسالتها أن تذهب إلى لندن، ثم تعود إلى الوطن المحتل بعد شهر وأكثر.
تقول بني عودة: بدأت في سلك التدريس عام 1994، ولمست كره الطالبات للمواد العلمية، وخاصة العلوم التي دخلت قلبي، وصرت أغير من شكل حصتي ومضمونها لبنات طمون الثانوية، فنحول الحصة إلى وقت للمرح والمتعة والمعرفة.
تضيف: كانت بداياتي مع التدريس غير مشجعة، فالمناهج قديمة لا تشجع على زيادة الأنشطة، وصرت أجتهد لزيادة التعليم النشط، الذي يجعل الطلبة حجز الزاوية في التعليم. بدأت بالجوانب النظرية، ثم انتقلت لزيادة الهامش في التجربة، وطوّرت من شكل التفاعل مع الحصص، وبت أقدم المعلومة في جو من المرح.
انضمت بني عود إلى مشروعي "انتر" و"ويلز") اللذين يقومان على التعليم بالحوسبة وبالمشاركة، وأطلقت صفحة إلكترونية تفاعلية خاصة بمناهج العلوم، ودخلت في توأمة مع ثلاث مدارس بريطانية، وتفاعلت مع مشروع (STEM) العالمي الذي يدمج التعليم في مجالات أربع: العلوم، والهندسة، والرياضيات، والتكنولوجيا.
تتابع: انحزت إلى إجراء تجارب في جو من المرح بين الطالبات؛ لإثبات صحة نظريات جامدة ومعقدة، وكنا نستخدم المواد المحسوسة كالبوظة للتعريف بخاصية تجمد المواد السائلة وحرارتها، وكنا نشكل لجنة تحكيم بعد انتهاء المسابقة، وإيصال المعلومة بسهولة ومرح، لتكريم المجموعة صاحبة أطيب مذاق في ما تقدمه من بوظة.
انتزعت نعيمة ورفيقاتها: نوال بني عودة، وهتاف محاميد، والمديرة أنعام بشارات، جائزة مؤسسة التعاون وحصلن على 17 ألف دولار. فيما تعمل المدرسة على تطوير نظام(STEM)، وتخصص بني عودة جل وقتها للعمل في دمج المهارات والمعارف والقيم والاتجاهات لصقل طالب إنسان ومواطن، يستطيع العيش في أي مكان.
وتقول: أطلقنا مبادرة الكيمياء صديقتي، ونجحنا في إدخال المادة العلمية إلى قلوب طالباتنا، وعرضنا التجربة في مؤتمر علمي بجامعة النجاح، وصممنا معرض تراث لافت، وعرفّنا بالقتل الصامت الذي تتسبب به: السجائر، والبلاستيك، والمواد المضافة، والكولسترول. كما نفذنا محاضرات علمية عبر "سكايب" مع جامعة ألمانية، وشاركت معلمة الفيزياء في دورة بألمانيا لثلاثة أسابيع.
وتأمل المتنافسات الثلاث أن تختار مؤسسة "فاركي فاونديشن" البريطانية معلمة فلسطينية أخرى تلتحق بحنان الحروب، التي انتزعت جائزة أفضل معلم في العالم بنسختها السابقة.
إضاءات تربوية
بدوره، أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس والأغوار الشمالية عبد الباسط خلف إلى أن "أصوات من طوباس" سلطت الضوء على ملفات تربوية عديدة كحكاية التربوي عوني ظاهر ومعرضه الثري بالتقنيات المدرسية خلال مئة عام، و"بنات طوباس الثانوية" المدرسة صديقة البيئة والتي تعج بالأزهار والنباتات، والنادي العلمي للمدرسة الذي أطلق بحثًا علميًا نقل القلق بتلوث مياه الباذان.
وأضاف: نقل البرنامج تجربة أول مدرسة خضراء في فلسطين تحتضنها بلدة عقابا، وحكاية فارسات الثانوية العامة وفرسانها الذين يكحلون قائمة العشرة الأوائل كل عام، عدا عن سيرة المربية دلال صوافطة وفايز أبو ناصريا حول شهادة الثانوية العامة خلال النكسة، ورواية صلاح خضيري أول الحاصلين على"التوجيهي" في المحافظة، بجوار مواكبة رسائل الحرية التي أعدها طلبة تضامنًا مع الأسرى، والمحاكمة الصورية لوزير الخارجية البريطاني بلفور على وعده الأسود.