مادحات النبي في نابلس
آيات عبد الله
في حلقة دائرية بدأن التصفيق والدوران، نساءٌ يرددن على وقع ضربات الدف، أناشيد في مدح النبي الأمين وراء سيدة تقود جوقة الفرح هذه بشيء من المناجاة.
"فتشت كتير ما في متل نبينا،، عيونه كحلة وحكياته عربية" تنشد المادحة، فيرد الحضور "الله ينصر الأمة الإسلامية".
يحيل المسلمون في بلاد الشام ومصر جزءا من أفراحهم إلى احتفال بمولد النبي محمد (صلى الله عليه وسلّم) باعتباره الرحمة الكبرى والفرح الأعظم الذي أنزله الله على الأرض، طالبين بذلك الوصول الى حالة من الوجد تسمو بأرواحهم إلى ما فوق العالم المادي المحسوس.
إلا أن هذه الاحتفالات التي كادت أن تندثر، عادت وبرزت في السنوات الأخيرة بنسبة ملحوظة أكدتها المادحة أم علاء في حديث لوكالة "وفا".
تقول رينا محمد عبد الرحمن وكنيتها "أم علاء" من مدينة نابلس، والتي امتهنت ترديد أناشيد المدح النبوي قبل أحد عشر عاماً، إن هذه الاحتفالات تزداد كل عام، فقبل ثمانية أعوام مثلاً، كانت تحيي الموالد إيفاءً للنذور أو في مناسبات خاصة قليلة، كسيدة أنجبت بعد سنوات طويلة، إلا أنها هذا الصيف كانت تنشد الموالد يومياً تقريباً، في مباركات الزواج والنجاح.
ويتمثل احتفال المولد بقراءة قصة ولادة النبي التي تبدأ من الليالي التي بشرت فيها أمه آمنة بحمل كريم، تتخللها أناشيد مدح ورجاء وفخر.
وتاريخياً عرف المولد في بلاد الشام ومصر، كجزء من التراث الديني الشعبي.
وذكر جلال الدين السيوطي في كتابه "حسن المقصد في عمل المولد" ووافقه المؤرخون في ذلك، أن أول من كتب قصة المولد هو أبو الخطاب ابن دحية حين حضر إلى أربيل في شمال العراق فوجد ملكها المظفر أبو سعيد كوكبري يحي تلك ذكرى، والذي يعتبر أيضاً أول من أقام هذه الاحتفالات في شهر ربيع الأول، وهو زوج ربيعة خاتون بنت أيوب، أخت الملك الناصر صلاح الدين.
بعد أبو الخطاب، بدأ العلماء والشعراء بكتابة قصة المولد، إلا أن أشهرها ما كتبه ابن الجوزي عن ليالي الحمل التي مرت فيها آمنة بنت وهب، حين رأت الأنبياء جميعهم، ورأت أعلاماً منصوبة في المشرق والمغرب والملائكة أفواجاً، والطيور سدت الفضاء بأرجل خضر ومناقير كأنها الياقوت.
وتعتمد القصص على الحديث النبوي الصحيح "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام".
"ما أحلى جفونه، ما أحلى عيونه، وأنا مفتونة بحب النبي"، تفتخر المادحة أسماء بعارة بهذه الأبيات التي أضافتها هي بنفسها إلى أنشودة مدحٍ نبوية، فضلت أن تسمى بالمادحة لرسول الله، ليرتبط اسمها به.
وعن استعدادها قبل كل احتفال، تقول: "أرفض أن أبدأ بالمدح قبل أن ترتدي كل الحاضرات ملابس محتشمة، كرامة واحتراماً لسيرة الحبيب، فروحه في برزخ دائم تحضر مجالس ذكره عليه السلام".
أسماء لا تحب أن تنشد المدائح مع فرقة، بل تفضل أن يشاركها الحضور في ترديد الصلاة المتمثلة في هذا المقطع "صلّوا عليه وسلموا تسليما.. الله زاد محمداً تعظيماً"، ليتشارك الجميع متعة الإنشاد والوصول إلى مرحلة من الوجد، تصلهم بالله تعالى.
تزايد الاحتفال بالمولد لدى السيدات أكثر من الرجال، وانتشاره في القرى، بدا واضحاً في السنوات الأخيرة، وحتى في المدن كان الاحتفال به يتم مرة واحد خلال شهر ربيع الأول، وفي مناسبات خاصة قليلة.
وفي فلسطين يذكر المؤرخ مالك فايز المصري في كتابه "نابلسيات"، أن الموالد في مدينة نابلس عبر التاريخ لم يعلُ عليها إلا ذلك المولد الذي كان يقام في جامع الجزار في عكا، وكان يقصدها الناس في تلك المناسبة، فيعودوا يحدثون أهل نابلس بما شاهدوه وكيف أنهم واصلوا المدائح النبوية والصلاة حتى طلوع الفجر.
تردد المادحات في الحديث عن بعض الأفعال التي تحصل في احتفال المولد، كان واضحاً كالقراءة على الماء والملح، والوقوف عند الوصول إلى الحديث عن ولادة الرسول الكريم، إلا أن سعادتهن بحب الرسول الذي ملأ قلبوهن كان واضحاً في ابتسامة تخرج من الأعماق بكل يسير.
لكن عضو مجلس التصوف الأعلى جميل المصري، كان قادراً على تفسير كل فعل وقول يتضمن احتفال المولد، فالمتصوفون هم أكثر من يهتم بالروحانيات والغناء، وأكثر من يتبرك بالنبي محمد عيله الصلاة والسلام، فعلمهم متصل به كما يؤكدون.
يؤكد المصري أن القيام في نهاية المولد عند الحديث عن ولادة النبي علية السلام، هو إكرام وإحترام له، وأن الرقص هو استجابة الجسد لحالة تصيب الروح في حالة الذكر والفرح.
ولم يقتصر المدح النبوي على طبقة اجتماعية أو دينية دون أخرى، فحتى كوكب الشرق (أم كلثوم)، غنت "نهج البردة" التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي.
أُلقي رجائي إذا عزَّ المُجيـــرُ على ... مُفرِّج الكرب في الداريــــن والغمـــم
إذا خفضـــــتُ جنــاح الذُّلَّ أسألــه ... عِزَّ الشفاعـــةِ ؛ لم أســــأل سوى أَمـَم