روسيا وفلسطين... تقدم إلى الأمام
بقلم: دميتري ميدفيديف (رئيس وزراء روسيا الاتحادية)- هناك أماكن في العالم لا يمكنك أن تزورها دون أن تتأثر بها، وذلك نظرا لكثرة الكنوز الحضارية المتواجدة فيها.
ومن هذه الأماكن أرض فلسطين المقدسة، مهد للحضارات والديانات ومسرح جلود للصدامات والنزاعات القديمة العهد وموطن للذاكرة التأريخية ومقصد للحجة التي لا نهاية لها.
ولا يمكنك أن تتصفح سجلات تاريخ فلسطين دون أن تشعر بخلجات النفس. وهنا تتقاطع أكبر شرايين الحياة السياسية والدينية ليس فقط لمنطقة الشرق الأوسط، بل وللحضارة الانسانية كلها. ولذلك فإن الزيارة إلى فلسطين بالنسبة لي أهم من أية زيارة دولية أخرى.
وتعتز موسكو بعلاقات الصداقة التي تربط بين روسيا وفلسطين منذ عقود. وندعم دوما الشعب الفلسطيني والحل العادل للقضية الفلسطينية على أساس قرارات مجلس الامن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأصبحت منطقة الشرق الأوسط اليوم مشهدا للأحداث الدرامية والمآسي الإنسانية، حيث كان قصر النظر لبعض القادة الذين عجزوا عن توجيه بلدانهم ومجتمعاتهم إلى مسار التنمية المعاصرة، واللامسؤولية والأنانية لبعض القادة الآخرين الذين قرروا أنه يحق لهم التدخل من الخارج في الشؤون الداخلية للدول الأخرى من أجل تحقيق مصالحهم، قد حوّل المنطقة القادرة على تحقيق الازدهار إلى منطقة النزاعات.
ويشكل الإرهاب والتعصب الديني خطرا لجميع البلدان ليس فقط في هذه البقعة من الأرض، بل وفي كل مكان تقريبا. ولكن، من هذه المنطقة بالذات يجب أن نبدأ جهودنا لفك العقدة المشدودة للتناقضات التي تزعزع الاستقرار.
وعلى هامش هذه التطورات العاصفة قد تبدو القضية الفلسطينية وكأنه تراجعت اهميتها، ولكن روسيا كانت دائما تتشبث بموقفها الثابت – حل القضية الفلسطينية أولوية وشرط لازم للتسوية العادلة والشاملة في منطقة الشرق الأوسط برمتها. فإن مصير الشعب الفلسطيني والدولة الفلسطينية هو مؤشر مدى جاهزية القوى الاقليمية والدولية الكبرى لحل قضايا التنمية الدولية الاكثر إلحاحا.
ومن المهم للغاية تحقيق الاستئناف الفوري للحوار الفلسطيني الإسرائيلي الذي يجب أن يؤدي في نهاية المطاف الى ايجاد حل لمسالة تعايش الدولتين اللتين تتمتعان بحقوق متساوية.
ويعود تاريخ علاقات بلادنا مع فلسطين رسميا الى 30 نوفمبر عام 1974، عندما زار موسكو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. ومنذ عام 1976 تعمل في موسكو ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية التي تم تحويلها في عام 1990 الى سفارة دولة فلسطين.
ويتطور التعاون الروسي الفلسطيني في مجالات كثيرة. ويزور رئيس دولة فلسطين محمود عباس موسكو لتبادل الآراء مع القيادة الروسية في أجواء من الثقة حول عدد كبير جدا من القضايا الاقليمية والدولية.
وقام القادة الروس بزيارة القمة الى فلسطين ثلاث مرات. وفي ابريل عام 2005 وفي يونيو عام 2012 زار رام الله الرئيس فلاديمير بوتين.
وتركت الزيارة التي قمت بها إلى أريحا في يناير2011 أجمل الانطباعات في ذاكرتي، حيث كان لي شرف أن افتتح في أقدم مدينة العالم مجمع المتحف والمنتزه الذي تم انشاؤه على الأراضي التي امتلكتها روسيا في القرن الـ19. وأبرز وأجمل آثار المجمع شجرة الجميز أو "شجرة زكا" الوارد ذكرها في الاناجيل. وفي بيت لحم تم بناء مجمع متعدد الوظائف في شارع بوتين كهديتنا للشعب الفلسطيني.
ونولي اهتماما خاصا لتعزيز التعاون الاقتصادي الثنائي. وبطبيعة الحال، لا نستطيع الالتفاف على العوامل السلبية المنبثقة عن الاوضاع السياسية العسكرية الصعبة وعدم الاستقرار في المنطقة. ولكننا قد احرزنا نجاحات معتبرة في الفترة الأخيرة حيث تم في ابريل عام 2015 تشكيل الجنة الحكومية الروسية – الفلسطينية المشتركة للتعاون التجاري الاقتصادي التي يجب أن تساهم بقسطها الكبير في تطوير الشراكة العملية بين البلدين.
وعلى الرغم من الحجم المتواضع للتبادل التجاري، فإن الديناميكية الايجابية باتت ملحوظة. مثلا، ازداد حجم التبادل التجاري في عام 2015 الى 2,3 مرة بالمقارنة مع عام 2014.
وأكثر من ذلك، تم تطبيق نظام التسهيلات لاقصى حد ممكن بالنسبة للصادرات الفلسطينية إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوراسي الاقتصادي (روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزيا) – تم إعفاءها من الرسوم الجمركية المعمول بها لدى دخولها أسواق هذا التكتل التكاملي الذي يسكن في حدوده حوالي 180 مليون مستهلك. وفي السنوات الأخيرة تم إبرام عدد من الاتفاقيات الحكومية والوزارية التي سيصب تنفيذها في تطوير التعاون بين البلدين.
ومن المفترض توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية الجديدة على هامش زيارتي إلى فلسطين، الأمر الذي سيسهم في خلق مناج افضل للمضي قدما جنبا إلى جنب وترويج الاستثمارات المتبادلة والتعاون الصناعي والزراعي والتجاري والثقافي.
وتجد فلسطين نفسها في موقف صعب وتقدم لها موسكو مساعدات مالية كبيرة بشكل منتظم في إطار التعاون الثنائي وعن طريق المنظمات الدولية. وفي السنوات الاخيرة جرت العادة أن تقدم روسيا لفلسطين المبالغ المعتبرة لتسديد النفقات الجارية لميزانيتها: في أعوام 2006، 2008، 2010 و2013 تم تخصيص اجمالي 40 مليون دولار لهذا الغرض.
وفي عام 2015 تم تخصيص المبلغ الاضافي بقيمة حوالي 5 ملايين دولار لفلسطين لصالح إعادة اعمار قطاع غزة الذي تضرر نتيجة العملية العسكرية الإسرائيلية في يوليو-أغسطس عام 2014. وتلبية لطلب الرئيس محمود عباس مولت الحكومة الروسية في أغسطس عام 2014 من ميزانيتها شراء شحنة الأدوية والأدوات الطبية لصالح سكان هذا الجيب الفلسطيني الذي يعاني من العزلة شبه الكاملة من بقية العالم.
كما ستمول روسيا إعادة اعمار المزكر التأريخي والديني لبيت لحم – مشروع ترميم شارع النجمة الذي يضم كنيسة المهد.
وبالنسبة لنا يعني ذلك تولي المسؤولية الحضارية عن مصير المقدسات المسيحية في فلسطين. ونحن ممتنّون للقيادة الفلسطينية على الدعم الفعال لعملنا من أجل استعادة وترسيخ الحضور الروسي الثقافي التاريخي في الأراضي المقدسة، حيث أصبح إنجاز ثلاثة مشاريع كبرى أحداثا مفصلية في هذا المجال. وفي بيت لحم على الأراضي التي منحتها السلطات الفلسطينية للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسيّة الفلسطينية تم بناء المركز الروسي للثقافة والعلوم على حساب روسيا. وفي عام 2014 في نفس المكان تم تدشين المدرسة الثانوية للبنين التي بدأت فيها دروس اللغة الروسية في عام 2015. وفي اطار زيارتي سأقدم للتلاميذ الفلسطينيين كتبا دراسية للغة الروسية.
وتقدم روسيا تقليديا دعما لفلسطين في إعداد كوادرها الوطنية في المجالات التي تحتاج فلسطين اليها وخاصة لتلبية احتياجاتها المستقبلية. ويحمل آلاف الفلسطينيين شهادات التعليم العالي التي حصلوا عليها في بلادنا.
وتواجه القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني كله عددا كبيرا من التحديات الحادة التي تزيدها سوءا الأجواء من الغموض السائدة اليوم على عموم تراب الشرق الاوسط. فإن دولة فلسطين الفتية التي تمر بالمرحلة المعقدة لتشكيلها، تجد نفسها غير حصينة من هذه المخاطر بصورة خاصة. واريد ان أؤكد على أن روسيا كانت ولا تزال صديقا وثقا للفلسطينيين. وسنعمل كل ما بوسعنا لضمان الرخاء والأمان لبلادكم.