عرفات الديك... عندما يصطاد ليلا
نداء عوينه
تختلف تجربة الديوان الأول للشاعر الفلسطيني عرفات الديك عنها للكثير من الشعراء، فلا يقف عند كونه ديوانا، بل يتجاوز ذلك ليكون إنتاجا راسخا زاخرا بالمعاني، محتواه مكثّف، رصين، يقرأ بأكثر من طريقة ومن أكثر من زاوية.
ففي يصطاد ليلا، يتجاوز عرفات الديك الفكرة إلى ما بعدها، ويفكك الصورة الشعرية إلى عناصرها الأولية ليعيد بناءها من جديد، معيدا هيكلة العلاقات بين المفردات والمعاني، ومحدثا في بنية القصيدة المعنوية والبلاغية بشكل لا-سقراطي هادف لاستكشاف الخارجي المستقل عن الانسان وباحث في طبيعته ومكانته ومصيره، ويقوم الشاعر بإعلاء نَفَس الصورة الشعرية، فيكتب من علوّ متباين على المستوى الذهنيّ، ومتفرّد في تبرير العلّة الدرامية والموضوعيّة الزائدة عن الإدراك الحسي.
"الصياد الجيد
الصياد الصبور
يربي في فريسته
رغبة عارمة في افتراسه
دون أن ينسى
أنه الصياد"
على المستوى الشعوري، يذهب عرفات الديك إلى النفاذ الى الماهية والوجودية على أنها كشف عن البعد الوجودي للحدس، غير القائم على اللغة بل على الخبرة الفردية، حيث لا يرتبط باللغة المشتركة بين الذوات فيؤدي إلى ناتج متضافر حسياً، لكنه يلجأ للمناقضة والمقابلة على سبيل التوكيد.
"تعرفني المدن التي تصافحني
بأرصفتها
وتلك التي تأخذني على محمل البهو
لا تعرفني"
نرى في العلاقات بين الدلالات المعنوية في ديوان عرفات الديك بعض السعي لتحويلٍ شعوري خاضع لقواعد الزمان-مكان، في مشابهة -وإن كانت بعيدة– مع نظرية الكم وأثرها على تحويل الحدس إلى مفهوم حدثيّ.
"أمي
حاستي الأولى
منذ اكتشفت قلبي
تحرس نوم الصغار
من رائحة الموت في فوهات الجنود
تدثرهم بما تبقى من أغنيات الأمس
ثم ترخي أصابعها"
وللتقمص حالاته في ديوان عرفات الديك؛ وهذا راجعٌ لكون لشعور ليس ماديا مستقلاً بذاته، بل نتاج التقاء الحواس بالمعطيات الفيزيائية بشكل مباشر او غير مباشر، وتحويلها إلى معرفة، ثم إلى تهيّؤ مستكمل بالإدراك المباشر، أو غير المباشر، فتجد التقمّص في قصائد الديوان رغائبي في صورة ذئب، أو أثيريّ في صيغة روح نورانية كنّى عنها الشاعر بالنسيان:
سيجيء
لعينيه أصوات ال?اري، وليده رائحة البحر
وح? يقول
تصمت كل ريح
ويصفح كل قلب
أو:
"الزمان: ساعة الذئب
المكان: زمن على ضفة الماء
أحس بوحشة تقتات قلبي
جسدي قلق
روحي متأهبة لشيء ما
روحي متعبة"
أما العقل الواعي المعرفي لدى الشاعر فقد أنتج بعض المنحوتات الشعرية أو الصورية التي تتجاوز الشعور إلى هندسة التفاصيل والشعور والصورة في مشهدية واضحة متعددة الطبقات والأبعاد، تنحسر فيها الحدود بين المادة والفكر وتضيق الفجوة بينها فتصير وقائع لا فيزيائية ولا فكرية، بل "مادة المحايدة" ذات بعد مادي عندما تتجمع وفكري حدثي عند تحليلها، وطالما أن الحقائق الرياضية ترتد بالتحليل الى وقائع جزئية وطالما أن احداث العقل وعلاقاته الجزئية تنصب على حقائق خارجية جزئية، فلا بد من ان تكون اللغة التي تعبر عن الادراك ايضا جزئية ومباشرة ومتاخمة للحواس.
"في الطريق إلى الطريق،
طريقك،
تنشلني المسافة من وعي التصاقي بك
وتخيطني التفاصيل بإبرة من صهيل الخيول
فكرة واحدة عن جوعي إليك"
بنية القصيدة لدى عرفات الديك توظف النظام النسقي لغرض الوصول إلى البنية الهندسية للنص، فبعكس البنيوية الشكلية القائمة على الوزن والقافية والصوتيات، وبعكس البنية البصرية للقصيدة، نرى عرفات الديك قد بنى هندسة القصيدة في متوالية قائمة على الاشتقاق والتفاضل بشكل رياضي هندسي فتصبح القصيدة معادلة مصاغة بحداثة وإتقان:
"الحزن:
وردة واحدة
على حافة النافذة
الحزن:
نافذة مغلقة
أمام المرأة
الحزن:
عين امرأة وحيدة
خلف زجاج معتم."
بنيت هذه القراءة في ديوان "يصطاد ليلاً" على دراسة للأسس الشعرية المنطلقة من إحداثيات القصيدة ودراسة الثابت والمتغير فيها بمنظور وصفيّ شارح للسمات البنيوية لقصائد الديوان. يقول تريستان تزارا إن "الشعر هو الدوار والسلام والرضى بما تحمله اللجة من أوجاع وهو الفتح المشع في أعالي الأشياء. لا يتأتى عالم الشاعر من استكشافات في عوالم محدودة، بل من خلق تلك الصور التي يعثر عليها الشاعر في داخله ويعيد صياغتها عن طريق اللغة ذات الطاقة متجددة." ولو كان الشاعر عرفات الديك وفياً لما هو مشروع، أو لما هو شائع عن حيثية الخلق والهدم، والعلوّ والدنوّ لما أمكن له تقديم منتَج راسخ ومتين بهذا الشكل. ديوان "يصطاد ليلا" تجربة جميلة وقراءة ممتعة من شأنها أن تشدّ القارئ شعوريا، معنويا وفكريا.