الأوراق العائلية الخاصة تصوغ ذاكرة الوطن
آيات عبد الله
في شارع فلسطين وسط مدينة نابلس لا يشد انتباه جميع المارة لوحة معلقة على مدخل محل للإلكترونيات، احتفظ خلف زجاجها أصحاب المحل بأوراق ووثائق تثبت انتساب جدهم إلى جمعية العمال العربية الفلسطينية التي تأسست عام 1925 في مدينة حيفا باعتباره عامل كهرباء.
هذه الوثيقة الهامة عائليا، تمتلك أيضا قيمة بحثية ظهرت في الآونة الأخيرة لدى دارسي التاريخ الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني، فمن خلالها يمكن فحص تشكل الجمعيات المهنية، وحرص المهنيين الفلسطينيين من المدن المختلفة على الانتساب لها في الفترات التاريخية.
وهذا بالتأكيد ينطبق على الكثير من الوثائق الخاصة، والتي تزخر منازل الفلسطينيين بالكثير منها، وتعكس صورة أكثر وضوحا عن تشكل الحياة اليومية، بعيدا عن السياسة، التي لها الكثير من المراجع.
الباحث حمزة ديرية بدأ في جمع الحكايات الشعبية، والتاريخ الشفوي عام 2006، إلا أنه وبعد عامين أدرك أهمية الوثائق التي يشاهدها في أيدي المخاتير وكبار السن.
وأول وثائق حصل عليها كانت صندوقا مليئا بالأوراق القديمة، ثمانون شهادة ميلاد عثمانية، وفرمان من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رممته جامعة أبو ديس فيما بعد، وتلغراف عسكري، والعديد من الأوراق التي تعكس الحياة في قريته قبل عقود من الزمن، وجدها أحد أقربائه الذي كان والده عضو مجلس قروي، وجدّه كان مختارا وجنديا في الجيش العثماني.
يروي ديرية لـ"وفا"، "لم يكن لدى أصحاب الصندوق أي فكرة عن أهمية ما يحويه من أوراق، أخذوا منها أربع وثائق فقط، تثبت ملكيتهم للعديد من الأراضي، وما بقي أرسلوه إلي، فهو لا يفيدهم".
ومن الوثائق التي تحدث ديرية عن نجاتها، وإنقاذها، "أن تاجرا في إحدى القرى كان يكتب مذكراته وتفاصيل سفره بدقة، والمدن التي ذهب إليها في تجارته، ومناسباته العائلية، وكيف كانت طقوسها وعاداتها، ترك هذا التاجر إرثه التاريخي ورحل، وسافر أبناؤه من بعده، إلا أن زوجته الثانية التي بقيت تسكن البيت، احتفظت بمقتنياته، وأغراضه الشخصية، وهذا هو السبب الذي ساعد في إنقاذ هذه المذكرات".
معظم عامة الناس لا يقدرون ما يملكونه من أوراق قديمة، ويتخلصون منها بالحرق، أو الإتلاف، والقلة القليلة يعتقدون بأهميتها، ولكن ليس لهم، فيتبرعون بها إلى باحثين مهتمين، أو مكتبات تهتم بالوثائق، والأرشيف.
ويضيف ديرية: "معظم من حافظوا على أوراق ووثائق قديمة كانوا أبناء مخاتير، عاشوا في طبقة سياسية معينة، وتفتحت عيونهم على أهمية الأوراق الاجتماعية والسياسية، ولكن فايز المالك أحد المخاتير في قرى شرق نابلس بعد وفاته، أحرقت زوجته أوراقه، حزنا عليه".
الأحداث التي مرت على فلسطين أجبرت العديد من المخاتير والمجندين في جيش الإنقاذ عام 1948 على التخلص من أوراقهم وما يحملونه من وثائق خوفا من إدانتهم، خاصة عند احتلال الضفة عام 1967، حيث جمعوها في صناديق خشبية ودفنوها، ما أدى إلى تعفنها وتلفها.
يروي ديرية قصة سلامة النجم مواطن من بلدة عقربا شارك عام 1948 مع جيش الإنقاذ العربي، كان يملك أوراق السرية التابع لها وما يخصها من وثائق وصور للجنود مع قائد جيش الإنقاذ فوزي القاوقجي، دفنها في صناديق خشبية، في أول اقتحام للقرية عام 1967، ولم يحاول إخراجها حتى ثمانينيات القرن الماضي، وكانت حينها تالفة متعفنة.
الحروب بشكل عام ساهمت في ضياع الكثير من الوثائق، فالجزائريون أيضا في ثورة التحرير عام 1954، دفنوا الكتب والمخطوطات، وأحرقوها خوفا عليها من الفرنسيين، وقد تلفت بفعل الرطوبة والنسيان الطويل، ولكن ليست الحروب والجهل فقط، فالسامريون (يعتقدون أنهم بنو السلالة الحقيقية لبني اسرائيل) باعوا مخطوطاتهم وأوراقهم بسبب الفقر، ومنهم من كان يبيع أوراقا من المخطوطات، ما يبرر وجودها ناقصة الآن.
مدير المكتبات في جامعة النجاح الوطنية هاني جبر يروي لـ"وفا": "وصلتنا مخطوطات عديدة، واحدة منها عبارة عن قرآن كتب بماء الذهب قبل 900 عام، ويعود لجامع الجزار في عكا، لكنه فُقد خلال النكبة في سطو الاحتلال على المكتبات والمساجد، فحينها كانت هناك عصابات إسرائيلية مختصة في نهب الأوراق".
أول المخطوطات وصلت إلى جامعة النجاح عام 1982 عندما قدمت مسنة من دار تفاحة تطلب الكشف عن صناديق مليئة بالأوراق، والكتب في كوخ خشبي، تنوي إزالته في حاكورة منزلها، فوجد لديها كنز من الوثائق لا يقدر بثمن، ومنذ ذلك الوقت بدأت الجامعة في التواصل مع أهالي المدينة، ومن يُعتقد أن بحوزته مخطوطاتٍ أو أوراقا هامة.
وعن وعي الناس، قال جبر "بعض الناس يطلبون أموالا مقابل ما يملكونه من وثائق، فيتم تحقيقها من قبل مختصين، ثم تقديرها، وشراؤها، وفي إحدى المرات جاء رجل من قرية عصيرة، يملك أوراقا عثمانية، وكواشين، وجوازات سفر بريطانية، وعقد اتفاقا، بأن تحتفظ الجامعة بما لديه من وثائق، مقابل أن تلتحق ابنته فيها مجانا لفصل واحد".
وأضاف: "الناس لا تدرك ما تحمله من وثائق، فهي لا تفيد الباحثين فقط، بل الأفراد العاديين، حيث يأتي إلينا أشخاص يبحثون عن كواشين، وأوراق تثبت امتلاك أهاليهم لأراض معينة، وأشخاص يبحثون عن جوازات سفر للتأكد من أن أهاليهم كانوا مواطنين في إحدى الدول، وفي المقابل هناك أشخاص آخرون مزقوا جوازات سفر قديمة، لاحتوائها على صور، على اعتبار أنها محرمة".
وعن تجربته الشخصية مع وثائق والده الذي كان مختارا، يحتفظ هاني بشهادات له تعود إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وضريبة مالية لعام 1948، وجواز سفر لعمه الذي خرج للحج عام 1925، ويعمل جبر حاليا على جمع مخطوطات من سكان قريته كفل حارس، التي تتعرض لهجمة استيطانية كبيرة.
وعلى الخطى ذاتها، انطلقت منذ ثلاثة أشهر مجموعة تطوعية أطلقت على نفسها اسم "خزائن"، تسعى إلى جمع الوثائق التي يصعب جمعها، كالإعلانات الورقية، والمنشورات، والفواتير الموجودة بين أيدي الناس.
حلا مرشود واحدة من الفريق المؤسس والمتطوعين الثلاثين في "خزائن" تحدثت لـ"وفا" عن المشروع البحثي التطوعي الذي تسعى إلى إنشائه، ليخدم الباحثين والدارسين على مستوى فلسطين، والوطن العربي بشكل عام"، بقولها: نسعى إلى جمع الأوراق التي يصعب جمعها، فعلى عكس الجرائد، والكتب، والإصدارات الدورية المحفوظة، والمؤرشفة، نجد أن بعض الأوراق التي وزعت لفترة معينة، واندثرت، كانت تعد من أهم الوثائق التي تفيد الدارسين، في معرفة تفاصيل الحياة اليومية".
وتسعى "خزائن" إلى طرح ما تجمعه من وثائق ومخطوطات، والتي بلغت آلافا حتى الآن على "الإنترنت"، لتصبح متاحة لكل الباحثين العرب، والفلسطينيين، على عكس الأرشيفات الرسمية، التي تحتفظ بما لديها، وتقدمه بكل سهولة ويسر، ولكن للباحثين فقط.
التاريخ ليس الأحداث السياسية، والاجتماعية العامة، إنما الجانب التفصيلي المحلي من الحياة هو ما يبحث عنه الدارسون، وهو ما يعكس تفاصيل الحياة اليومية.
استفاد الباحث غسان دويكات في رسالة الماجستير من دفاتر أحمد جبر، الذي كان يجبي الضرائب العينية من الفلاحين بشكل مباشر في قرى شرق مدينة نابلس، وهذه الدفاتر موجودة حاليا لدى أحد أحفاده في قرية بيت فوريك.
يقول الباحث: "إن سجلات المحكمة الشرعية تعطي معلومات عامة عن الضرائب في منطقة المشاريق، بشكل عام، والمتألفة من ثلاثين قرية، ولكن دفاتر جبر، تذكر أنواع هذه السلع بالتفصيل، وأسماء الفلاحين، ما يعطي طابعا محليا، ويوميا، وقرويا عن حياة الفلاحين، في تلك الفترة".
هناك عدة دفاتر مشابهة له، وهي تفيد في معرفة حدود القرى، مثلا: أسماء الأراضي، وقد تكون بابا لدراسة العائلات وأصولها، وفيها جانب اجتماعي، حين تلاحظ أن كل المعاملات الاقتصادية كانت بأسماء الرجال، ولم تذكر النساء في عمليات بيع وشراء الأراضي، إلا بشكل قليل، وفي قرى معينة.
"إلياذة حرب فلسطين الغراء.. ثورة 1936" هو كتاب بخط اليد، للمعلم وإمام المسجد الشيخ محمد حجاز في قرية عنبتا شرق مدينة طولكرم، كتبه عام 1937، يروي تفاصيل الثورة على شكل ملحمة طويلة، تزيد عن الألف بيت، موجود لدى حفيده في القرية، وقد مزقت بعض أوراقه في المقدمة، والخاتمة بمرور الزمن.
إن كان التفريط في هذه الأوراق وإتلافها يشكل جريمة، فإن إخفاءها أيضا يشكل انتهاكا لحق عام، ومعلومات تفيد المجتمع ككل، وتساهم في توثيق رواية هذا الشعب، وأحقيته بهذه الأرض".