على أبواب "الجنائية الدولية"
جميل ضبابات
يقول قانونيون متمرسون في القانون الدولي في لاهاي، المدينة التي تطل على بحر الشمال البارد ويطلق عليها عاصمة العدل في العالم، "إنهم دائما إلى جانب الضحية".
ويمكن تمييزهم عن السياسيين المتواجدين في قاعة كبيرة بعيدة نسبيا عن مقر المحكمة الجنائية الدولية التي تواجدت فيها المدعية العامة فاتو بنسودا، التي تحاول النأي بنفسها عن الصحفيين من خلال اقتباساتهم الكثيرة من التشريعات الدولية.. من أيام شريعة حمورابي حتى اتفاقية روما.
"هذا مبرر وجودهم عمليا". هكذا يرد المراقبون في محيط المحاكم الدولية الكثيرة هنا، التي يتطلب الدخول إليها الخضوع لإجراءات أمنية مشددة.
لا تحفل المدينة فقط بدخول الدبلوماسيين والقانونيين والسياح إليها يوميا.. إنما خلف الجدران المغلقة تحفل بحديث عن فظائع ارتكبت على امتداد العالم.
في قاعة مغلقة بالزجاج المقوّى الذي يستحيل اختراقه أمكن الاستماع للمداولات التي تجري هذه الساعة في إطار محاكمة رئيس ساحل العاج السابق لوران غباغبو.
كالعادة، يجلس الصحفيون والمتابعون في سقف أعلى من سقف المحكمة حتى يتنسى لهم متابعة مجريات التداول دون تشويش، فثمة ما يطلق عليها هنا جرائم ضد الإنسانية يجري النقاش حولها تتطلب طول نفس.
خلال الأيام القليلة الماضية، جرى الحديث كثيرا حول مستقبل هذه المحكمة، فدول إفريقية ثلاث هي: غامبيا وبوروندي وجنوب إفريقيا، أعلنت انسحابها من هذه المحكمة. فيما سحبت دولة كبرى هي روسيا، رسميا توقيعها على نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية.
يشير رجل أمن إلى مجموعة من الصحفيين القادمين من دول مختلفة، للجلوس خلف الزجاج الذي تظهر منه وجوه القضاة الذين ينظرون إلى شاشات حواسيبهم.
حتى الآن، يعتبر حامل شهادة الدكتوراه في التاريخ والتي حصل عليها من جامعة ديدرو الباريسية، والحاكم السابق للبلد الذي يصنف بأنه الأول في إنتاج الكاكاو على مستوى العالم، أبرز سياسي يخضع للمحاكمة في الجنائية الدولية.
إن وصول المتهمين إلى المحكمة ليس بتلك السهولة التي يصل إليها الزوار الذين يتوهون أحيانا في طرقها. ذاته رئيس ساحل العاج السابق اعتقل في العام 2011 من خلال قوة عسكرية، ونقل إلى هنا بترتيب دولي.
تفيد مطالعة خارطة الشوارع في لاهاي، مع التدقيق في الطابع المتعرج للطرق التي تفصل الأحياء عن بعضها البعض، إلى استنتاج مفاده أن المدينة لم تنشأ بطريقه اعتباطيه. فحركة قطاراتها وحافلاتها تنقل المسافر من نقطة وتعيده الى نفس النقطة عبر شبكة متكاملة من الطرق.
لكن الأمر بجلب متهمين إلى هنا أمر مختلف تماما.
وهذه المدينة التي يتجاوز عدد سكانها نصف مليون نسمة، هندست في الأساس في مرحلة نشأتها الحقيقية بعناصرها الحديثة في القرن الثالث عشر لراحة السكان الذين كانوا يتنقلون على الأقدام حينها. لكن حينها لم يكن أحد يعرف مآل مستقبل المدينة التي تحتضن كبرى المحاكم الدولية.
فقد تمثل الهدف من وراء سعي الهولنديين الى الاهتمام بهذه المدينة في صناعة مدينة تحفل باهتمام العالم من خلال نحت التماثيل وتقديم عناصرها المعمارية أمامهم، إلا أنها منذ سنوات بدأت بتقديم أحكام قضائية كبيرة.
تبدو المدينة كأن لا حدود لها اليوم، لكن شارع اوده فالسدوربارفيج يضع حدا للاحتفال بمظاهر المدينة المعمارية والثقافية ذات الطرق المتشابكة جدا.
فثمة المبنى الحديث الذي يعطي انطباعا بأنه مكاتب لصناعة أجهزة الكترونية حديثة، لكنه ليس كذلك في حقيقة الأمر.
إنه مبنى محكمة الجنايات الدولية في هذا الشارع، الذي من المفترض أن تضع القرارات التي تصدر داخله حدا لكثير من الجرائم التي ترتكب على نطاق واسع في العالم.
وفي هذا اليوم يجري النظر بانتهاكات لنظام غباغبو. ودول أخرى ترى في هذه المحكمة حبل الخلاص أو إحدى الوسائل في صراعها ضد دول أخرى.
الانتقال من وسط المدينة الذي يعج في الصباح الباكر بالدبلوماسيين والموظفين الحكوميين الى الجانب الشاطئ الغربي من لاهاي حيث يوجد مقر المحكمة، يعني الدخول الى طوابير أصحاب الياقات البيضاء الذين يدخلون بعد ترتيبات أمنية مشددة الى مبنى كبير يشد أنظار العالم. أو على الأقل أنظار الفلسطينيين.
في العام 1998، تحديدا في السابع عشر من تموز، أعلنت 120 دولة موافقها خلال اجتماع للجمعية العمومية للأمم المتحدة في إيطاليا، على ما يعرف بميثاق روما، لكن ذلك اليوم لم يكن المحاولة الأولى لولادة فكرة المحكمة.
فقد حاولت جمعية الأمم المتحدة مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، طرح مسودتين لنظام يؤسس لإنشاء المحكمة.
بعد سنوات من إنشائها يبدو اليوم غير عادي في أيام المحكمة( 2424 تشرين الثاني/ نوفمبر)، فصباح هادئ و بارد جدا في الخارج لا يعكس حرارة المداولات داخل قاعة المحكمة، التي متنت بشكل لا يقبل التأويل لعزل الصوت وأخرى للاختراق.
إن العالم الثالث حاضر هنا بقوة؛ موظفون ومتابعون وقضايا، لدرجة تدفع بعض الصحفيين للهمس والتساؤل: هل أنشئت هذه المحكمة للعالم الثالث؟
في الشرق الأوسط بعيدا عن المحكمة، يجري تداول هذا الاسم كثيرا.
فلسطينيا، رسميا وشعبيا، ينظر إلى المحكمة كأحد الأعمدة التي يمكن الارتكاز عليها لردع إسرائيل عن التهام الأرض الفلسطينية، والتوقف عن عملياتها العسكرية ضد المدنيين.
منذ وقع رئيس دولة فلسطين محمود عباس على قرار الانضمام لهذه المحكمة، لم ينفك الفلسطينيون عن تهديدهم باللجوء لهذه المحكمة، لحشر إسرائيل في الزاوية الدولية.
لكن حتى اليوم شعبيا، لا يعرف ماذا يمكن أن تفعل المحكمة في المستقبل إزاء الوضع في فلسطين.
يمكن أن تقدم المحكمة الجنائية لزوارها هواءً نظيفا ومشهدا يأخذ الألباب، يشف عنه زجاجها الشفاف في القاعة السفلية.. ويمكن أن تقدم أصنافا جيدة من الشاي المنعنع، وقهوة الاسبرسو لكل من يدخلها، إلا أن ذلك لا يعني أن قاعة المحكمة التي تجري داخلها المداولات وتبث وثائق بحوزة فريق الدفاع والمدعي العام عبر شاشات كمبيوتر كبيرة، يمكن أن تطلق حرية الصحفيين بشكل كامل.
فالتخلي عن الهواتف النقالة ووضعها في خزائن خاصة، أحد الشروط لمتابعة التداول من وراء الزجاج المقوى.
بالنسبة للمراقبين من الإعلام الإفريقي والذين يبدون أكثر اهتماما من غيرهم بهذه المحكمة نظرا للصراعات التاريخية التي خلقت الكثير من الضحايا في تلك القارة، هناك آراء متباينة حيال هذه المحكمة، فاعلان ثلاث دول عن الانسحاب من هذه المحكمة طرح سؤلا كبيرا هنا في لاهاي: ما هو مستقبل الجنائية الدولية؟
بالنسبة للصحفي الغامبي الحر سانا كامار، الذي يعيش في منفاه بالعاصمة السنغالية دكار، فإن "العالم يحتاج إلى مثل هذه المحكمة. لا بد من أن تحقق العدالة الدولية للضحايا. لكن الناس بحاجة إلى عدالة قوية تحقق العدل وتساعد على التئام الجروح".
يردد صحفي آخر يدعى سني أم كيه، المعنى ذاته فيما كان يدقق النظر في وثائق يتحقق الادّعاء العام منها أثناء جلسة التداول في قضية غباغبو.
ليست قضية هذا الرجل هي القضية الوحيدة التي أحدثت صدى هنا.
لا يمكن المرور في لاهاي دون سماع اسم المهدي وقصته مع الجنائية الدولية. إن ارشيفا شفهيا ومكتوبا أيضا، يمكن الاستماع إليه ومطالعته حول هذا الرجل.
في أروقة المحكمة والمحافل القانونية وردهات الفنادق التي يحط فيها القانونيون والدبلوماسيون، يتردد اسم المهدي كثيرا .
فقط منذ أشهر قليلة، أصدرت المحكمة حكمها ضد الجهادي المالي أحمد الفقي المهدي، صاحب القضية المثيرة للجدل وصاحب الحكم الذي وصف هنا بـ"التاريخي".
حكم المهدي بالسجن تسع سنوات، بعد إدانته بتهمة تدمير أضرحة في تمبكتو، مدرجة على قائمة التراث العالمي.
لكن حتى هذه الساعة التي يجري فيها الاستماع للشهود في قضية غباغبو، وحتى الانتهاء من محاكمته ليس معروفا كم متهما سيدخل إلى هذ المحكمة التي يدخلها نحو 800 موظف يوميا، عبر هذا الباب المجهز بممر الكتروني حساس.