لقاء على خطى المسيح
جميل ضبابات
فيما يتناوب نحو 200 مؤمن مسيحي اثيوبي على الهبوط بخطى ثابتة إلى نهر الأردن، كان الفتى أحمد أبو زيد القادم من رام الله يلوح بيده للضفة الثانية من النهر الذي يجري نحو الجنوب.
وفي المكان الذي يروي الحادثة التي ذكرت في الإنجيل عندما قام يوحنا المعمدان بتعميد يسوع في هذا المكان قبل نحو 2000 عام التقت عينا أبو زيد مع أقاربه في الجهة الأخرى للمرة الأولى في عمره الذي يناهز 12 عاما.
في الليلة الماضية لليوم الذي احتفل فيه المئات من المؤمنين المسيحيين في واحد من أكثر الأماكن قدسية، قررت عائلة أحمد أن تسافر من رام الله إلى أريحا لتذهب عبر الجموع إلى النهر، وقرر الجزء الآخر من العائلة ان يهبط من العاصمة الأردنية للقاء.
واقفا على طرف درج خشبي قال أحمد: "إني أشاهد ابنة خالتي للمرة الأولى، هذا مختلف عن شاشة الكمبيوتر".
إنها واحدة من أكثر المقاطع الإنسانية التي أمكن التقاطها في مشهد تغلفه الروحانية الدينية في أكثر المناطق انخفاضا على وجه الأرض.
واعتاد الفتى الذي رافقته إلى النهر الذي يفصل بين الأراضي الفلسطينية والأردنية، ويشكل حدودا تاريخية، على إجراء محادثات عبر تطبيق سكايب في الشبكة العنكبوتية.
" اليوم أحس بوجودهم"، قال أحمد في إشارة منه الى اللقاء الحي والمباشر رغم الفصل الطبيعي بين بلدين بعيدا عن الفواصل الافتراضية.
وعيد الغطاس وهو سلسلة أيام يصل فيها مؤمنون مسيحيون من كل أنحاء العالم إلى هذا الموقع، كان نافذة حقيقية للفتى الذي لم يشاهد ابنة خالته من قبل إلا عبر نافذة الكترونية.
ويفتح الفضاء الرحب أمام الواصلين الى ضفة النهر مراحا رحبا من التلال والهضاب وأشجار الطرفا التي تنمو قرب المياه الجارية.
وفي المكان المخصص للقيام بالصلوات الخاصة بهذا اليوم، لم يكن بالإمكان تحديد من جاء للصلاة أو جاء لإلقاء التحية على أقارب له في دولة أخرى.
فعدد من القادمين وصلوا لالتقاط صور "سلفي والنهر المقدس خلفي"، وهي جملة اعتاد الفلسطينيون على ترديدها عندما يتلقون صور "سلفي" أمام واجهات المحلات او الجبال العالية أو الأبنية المعروفة.
وتاريخيا كان نهر الأردن الذي يجر المياه لمسافة 250 كيلو مترا من أنهار عديدة حتى البحر الميت، المكان الذي يتحتم على كل المسافرين من الضفة الغربية إلى الاردن قطعه.
وسمي في التاريخ الحديث الجسر.
وفي الماضي كان عبور النهر إما بقوارب صغيرة او من خلال المناطق التي تجري فيها مياه ضحلة.
وأحمد الذي ارتدى قميصا أصفر كإشارة مسبقة اتفق فيها مع ابنة خالته في اليوم السابق ليسهل عليها تحديده بين جموع الزائرين لم يقطع ذلك الجسر واكتفى بابتسامة عريضة من وراء النهر.
"أرى حج الناس إلى هنا لأول مرة، أرى ابنة خالتي أيضا لأول مرة"، أخبر أبو زيد الذي كان يتوسط والدته وجدته الفرحتان، مراسل "وفا" في المكان.
كان الفتى أبو زيد وصل هو والأم والجدة قبل وصول طلائع الحجاج المسيحيين صباحا، إلا أن اللقاء الذي تخلله إلقاء التحية بصوت عال وصل من طرف النهر إلى الطرف الآخر لم يدم أكثر من ساعة ونصف تقريبا.
قالت الأم: "وجدنا هذا اليوم فرصة جيدة للقاء اختي وابنة اختي.(..) عرفنا ان الطرق الى النهر مفتوحة هذا اليوم".
في العام الماضي وصلت جدة أحمد أمل بلتاجي (62 عاما) إلى طرف النهر، وفي ذلك النهار خطرت لها فكرة اللقاء الغريب.
"قلت: لماذا لا نلتقي بهذه الطريقة طالما لا يستطيع طرف من الأطراف السفر للقاء الآخر".
تردد والدة أحمد المعنى ذاته.
وقالت الجدة وقد انفرجت شفتاها عن ابتسامة عريضة عندما كان الحفيدان يتبادلان التحية" هذا هو الحلو المر".
ولا تسمح القوات الإسرائيلية للفلسطينيين بالوصول الى ضفة نهر الأردن الغربية، الا ان إجراءات أقل تعقيدا غالبا ما تتيح لبعض العائلات الفلسطينية الوصول إلى هنا خلال أيام الاحتفالات بعيد الغطاس.
ومنذ ان اجتاح جيش الاحتلال الضفة الغربية وأطبق عليها في حزيران عام 1967، حظر على الفلسطينيين الدخول الى المنطقة المحرمة التي تمتد من أطراف نهر الأردن عدة كيلومترات غربا.
كانت مياه النهر التي يفترض أنها تجري بسرعات متفاوتة من مقطع إلى آخر راكدة، ويغلب عليها اللون الأخضر، لكن حركة الغاطسين عكرت مياها وجعلتها أقرب إلى اللون الرمادي.
عندما تبادلت عائلتا أحمد الهتاف والتحية بالأذرع والأكف، أشارتا على سبيل الدعابة إلى أنه لم يتبق غير السباحة ليصل طرف إلى الآخر.
إلا ان ذلك مستحيلا طبقا للإجراءات الأمنية المعمول بها في هذه المنطقة منذ أن فصلت الضفتين عن بعضهما البعض عام 1967.
واكثر ما يمكن القيام به هو لمس الماء عند طرف النهر ونقل الإحساس ببرودتها.
ولا يتعدى عرض النهر في المكان المحدد للعماد أكثر من 15 مترا، إلا أن مؤشرا لقياس العمق أشار إلى أن عمق المياه لا يتجاوز 160 سم.
ويغط الذين وصلوا الى هنا رؤوسهم وكامل أجسادهم في الماء نحو 3 مرات ويخرجونها في كل مره خلال ثوان معدود.
وغالبا ما يقضى القادمون من خارج الأراضي الفلسطينية سنوات طويلة في التخطيط لهذه الزيارة، إلا أن عائلة أحمد قررت تنفيذ هذه الرحلة الليلة الماضية.
ورغم أن الفكرة قديمة إلا ان التنفيذ لا يستغرق أكثر من ساعة ونصف هي مدة الرحلة بين مدينة رام الله وموقع الغطاس.
غير أن مؤمنين قادمين من القرن الإفريقي خططوا لهذه الرحلة منذ سنوات.
قال إبراهام هيلا سيلاي وهو شاب اثيوبي جاء لمساعدة أمه لإتمام حجها، إن عدة حافلات وصلت إلى هنا لقضاء ساعات قليلة قرب المياه المقدسة.
وسرعان ما حول المؤمنون الاثيوبيون زيارتهم إلى حفلة فرح، وكلما دخل أحدهم الى المياه وخرج منها مبتلا بالكامل، أطلقت الاثيوبيات الزغاريد في فضاء النهر.