لا تقتلوا الضحايا مرتين..
زهران معالي
ما أن تحدث جريمة بشعة يذهب ضحيتها طفل أو مسن أو غير ذلك، أو يستشهد أحد برصاص الاحتلال الإسرائيلي، أو حتى يفقد شاب حياته بحادث طرق، حتى تسارع وسائل إعلام محلية ومستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي لنشر صور الضحايا دون ضوابط تراعي خصوصية أهاليهم أو كرامتهم.
حادثة مقتل الطفل أيهم قزمار في مدينة قلقيلية ونشر صوره على مواقع إعلامية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي مضرجا بالدماء، كانت آخر القضايا التي شغلت مختصين بأهمية إعادة النظر بآليات نشر صور الضحايا بطريقة مستفزة، والتي تقتل الضحايا مرتين.
يوم أمس، أصدر النائب العام المستشار أحمد براك، قرارا يمنع فيه نشر أية تصريحات إعلامية أو أية أخبار تتعلق بحادثة مقتل قزمار، مؤكدا أنه "يمنع النشر في القضية تحت طائلة المسؤولية وعرقلة سير العدالة، كون ذلك يؤثر على مجريات التحقيق وسير الإجراءات وجمع الأدلة، وصولا الى الحقيقة ولإبعاد التحقيقات عن المؤثرات الاعلامية والرأي العام".
يقول أستاذ الإعلام في الجامعة العربية الأمريكية سعيد أبو معلا لـ"وفا"، إن نشر صور جثامين الضحايا سليمة أو مشوهة يتعارض مع الأخلاقيات الصحفية، وإن الادعاء بنشر صور الشهداء؛ لكشف بشاعة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، عفى عليه الزمن؛ كون أغلب من يشاهد الصور من الجمهور الفلسطيني والعربي بنطاق ضيق.
ويؤكد أن تكرار نشر صور الضحايا بهذه الطريقة يخلق لدى المتابعين حالة من تبّلد المشاعر ونفور من القضية، كما أنه لا يجوز نشر صور الأطفال إلا بموافقة أولياء أمرهم، متسائلا: ممن حصلت وسائل الإعلام على الموافقة بنشر صور أيهم؟.
ويقول أبو معلا إن مواقع إعلامية ومرتادي "فيسبوك" نشروا صور أيهم بهدف إبراز بشاعة المجرم، إلا أن الطريقة في نشر صوره كانت سيئة من الممكن الاستغناء عنها بعرض صورته كطفل جميل، مع تعليق يوضح طريقة قتله البشعة وترك الفرصة للقارئ ليتخيل الجريمة.
ويؤكد أبو معلا أن قرار النائب العام مبرر ووضع حدا لتداول أخبار وتصريحات من الممكن أن تكون غير صحيحة وتضر بسير التحقيق.
ويرى أن الحل لفوضى نشر صور الضحايا في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، يتم عبر الاستمرار بعملية التوعية، مطالبا أهالي الضحايا الذين يتعرضون لانتهاك الخصوصية أن يبادروا برفع القضايا على وسائل الإعلام.
وينوه أبو معلا إلى أن نقابة الصحفيين ليس دورها فقط لجنة أخلاقيات مهنة وأن تضمن حقوق الصحفيين المهنية والمالية، بل يجب أن يكون جزء من دورها الرقابة والرصد لتجاوزات يقوم بها صحفيون وتناقش تلك التجاوزات معهم.
من جهته، يؤكد رئيس لجنة أخلاقيات المهنة في نقابة الصحافيين حسام عز الدين لـ"وفا"، عدم وجود إجراءات عقابية لدى النقابة لوقف فوضى نشر صور الضحايا، إلا أنها أصدرت العديد من البيانات التي تحض على ذلك، مشيرا إلى وجود مسودة جديدة فيما يتعلق بأخلاقيات وقواعد المهنة وبنود خاصة تتعلق بنشر الصور في وسائل الإعلام، نافيا وصول أي شكوى للنقابة من أهالي ضحايا حول نشر صور أبنائهم.
ويضيف عز الدين: "يجب أن تكون هناك إجراءات أكثر من قضية مسودة أخلاقيات أو مدونة سلوك، كون أي مدونة لا تفرض بل تدعو للالتزام بها، يجب أن تكون إجراءات أشد وصولا لدرجة العقوبات".
ويشدد على أن "المشكلة الإعلامية تكمن بفوضى النشر عبر الإنترنت، فنتسابق على نشر الصور، ولا نتسابق على نشر المعلومة. صور الطفل (قزمار) نشرت على نطاق واسع، لكن الرأي العام لا يعلم ما جرى في هذه الجريمة".
ورغم أن الحرية الإعلامية تعارض وجود أي قوانين تحد من حرية العمل الإعلامي، إلا أن عز الدين يرى أن قانون الجرائم الالكترونية الجديد، يجب أن يصنف نشر صور الضحايا ضمن الجرائم التي يعاقب عليها القانون، كونها تدخل في خصوصيات الناس.
كما ويرى أن نشر صور الضحايا ثقافة عامة لا يتم وقفها أو الحد منها من خلال بيان، بل يجب أن تتكاتف القوانين مع المدونات ومواقف العمل الإعلامي لإنهائها.
وحول الرقابة من قبل النقابة، يشير عز الدين إلى أن الرقابة تتعارض مع الحرية الإعلامية، وأن متابعة ما يتم نشره وملاحقة الأخطاء الإعلامية عملية ليست سهلة وبحاجة إلى طواقم وأدوات ومعدات وموظفين لمتابعة الموضوع.
قانونية نشر الصور
ويقول الخبير في القوانين الإعلامية وحقوق الإنسان ماجد العاروري لـ"وفا"، إن نشر الصور منوط بأربعة محددات حقوقية تناولت القوانين والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وهي: حماية الخصوصية، والحق في الصورة، وحرمة الموتى، والقيمة الإخبارية للصورة، وحق الجمهور بالمعرفة.
ويضيف: "لا توجد صعوبة بالغة في تحديد إن كانت أية صورة تشكل انتهاكاً للخصوصية أم لا، فمكان التقاط الصورة هو الذي يحدد إن كانت خاصة أو عامة، فالتقاط صورة في مكان عام لا يعتبر انتهاكا للخصوصية، والمكان قد يكون طريقا عامة تملكها الدولة أو يملكها أفراد، وقد يكون مكانا خاصا يدخله الأفراد دون قيود أو تمييز مثل المحكمة، والمكان العام بالمصادفة هو المكان الخاص الذي يكتسب صفة المكان العام إن تواجد به جمهور من الناس مثل المحال التجارية، بينما التقاط الصورة في مكان خاص مثل المنزل أو من داخل المستشفى أو ثلاجة الموتى يشكل انتهاك للخصوصية، ولا يمكن التقاط صور من داخل هذه الأمكنة، إلا إذا تنازل الشخص أو امتداده المعنوي عن هذه الخصوصية".
ويؤكد أن القانون الأساسي الفلسطيني كفل حماية الخصوصية واعتبرها من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، وأعطى المواطنين الحق بتحريك الدعاوى الجزائية والمدنية إذا ما ارتكبت جريمة، وبالتالي يمكن أن يتقدم أي شخص انتهكت خصوصيته، للنيابة العامة ويلجأ للمحكمة ضد من انتهك خصوصيته ويطالب بالتعويض المدني (مالي، نفسي، جسدي)، ويشمل وسائل الإعلام.
وحول الحق بالصورة، يوضح العاروري أن كثيرا من الفقهاء القانونيين يرون أن صورة الإنسان هي محاكاة لجسمه، وصورة الإنسان وجسمه وجهان متلازمان، وبالتالي تأخذ الصورة حكم الجسم من حيث سرية الحياة الخاصة، فهي ترتبط بالإنسان ارتباطاً وثيقاً، ولهذا تتم حماية الصورة من النشر غير المشروع لها، والذي يتم دون رضا صاحبها، وتمت حمايتها في تشريعات العديد من البلدان باعتبارها "ملكية فكرية" لصاحبها لا لمصورها كما يفهم البعض، فلا يجوز أن تنقل صورة شخص من مكان خاص إلا إذا كانت على مسمع ومرأى الحاضرين، باعتبار ذلك موافقة ضمنية على النشر.
ويؤكد أنه "في كل الأحوال يبقى الحق في الصورة حقاً شخصياً من الحقوق اللصيقة بالإنسان، حق ينتهي بالوفاة لكن امتداده المعنوي يلحق بالورثة، وبالتالي ووفقا لرأي فقهاء القانون، يمكن لأي شخص طلب وقف الاعتداء على صورته أو صورة شخص متوفى يخصه، وطلب تعويضا إذا تعرض لضرر نتيجة نشر صورته، فالحق بالصورة ينتقل إلى الورثة بالوفاة، ومسوغ ذلك المصلحة العاطفية حين يلحق بهم أذى أدبي".
ويشير إلى المحدد الثالث المتعلق بنشر الصور، وهو حرمة الموتى، قائلا "قوانين النشر في الكثير من بلدان العالم عالجت نشر الصور وحرمة الأموات، وتركت الباب أيضاً مفتوحاً للأخلاقيات لتضع الضوابط اللازمة، أخلاقيات مهنة الصحافة لا تضعها الدوائر الإعلامية وحدها، بل يشاركها المجتمع في ذلك، كون المجتمع هو الفئة التي يستهدفها الصحفيون".
ويضيف: لذا من الأهمية التعرف على مدى حساسية المجتمع لحرمة الموتى، فحرمة الموتى فكرة قديمة بدأت منذ بدء الخليقة، وساهم الدين في صياغتها، لذا نجد أن أول ما يقدم عليه الناس في مجتمعاتنا هو تغطية جميع جسد الميت، وبعض فقهاء الدين الإسلامي يرون في جسد الميت عورة، لكن الشهداء لا يكفنون، البعض يغطي وجوههم أثناء التشيع والبعض الآخر يتركها مكشوفة، وهو ما يمكن تفسيره بأنه إذنٌ ضِمني من ذوي الشهداء بالسماح بالتقاط الصور لوجه الشهيد إن تم تشيعه بهذا القبيل، وإن تمت تغطيته يفهم بأنه تقييد لهذا الأمر، ما لم يصرح ذوو الشهداء بذلك بوضوح".
أما المعيار الحقوقي الرابع الذي يحدد سبل التعامل مع الصور وهو حق الجمهور بالمعرفة، فهذا حق يصعب تقييده حين تكون الوفاة ناتجة عن حدث عام مثل سقوط شهداء في مواجهات، ففي هذه الحالة تتيح العديد من القوانين حق نقل الصورة إن كانت في حدث عام، وكانت تهم الرأي العام، ولا يشكل نقل الصور مساً بالخصوصية، وهذا يبرر انتهاك مبدأ ملكية الصورة، لوجود حق آخر قد يكون حجم المنفعة العامة الناجمة عن استخدامه أكبر من حجم الضرر الناجم الشخصي الناجم عن استخدامه، وفق العاروري.
الضرر النفسي
بدوره، يؤكد أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت د. أباهر السقا لـ"وفا"، أن نشر صور الضحايا يترك أثرا نفسيا كبيرا على ذويهم، ويولّد عداءً لدى الأفراد، وشعورا بإهانة الكرامة وكرامة المقربين من الضحايا، مشيرا إلى أن أغلب المجتمعات في العالم تمنع تداول الصور، وتعلن وسائل الإعلام عن وجود صور قاسية، إلا أنه في المجتمع الفلسطيني يضرب كل ذلك بعرض الحائط.
وردا على الادعاء بأن المجتمع الفلسطيني يعيش حالة استثنائية كمبرر لنشر صور الضحايا، يقول: نحن بشر نخضع لكل المقومات الإنسانية للآخرين ولدينا مشاعر، والحفاظ على إنسانيتنا يتطلب عدم نشر الصور السيئة التي لها وقع سيء على المجتمع.
وينوه السقا إلى أن مبرر نشر صور الضحايا لا يمكن فهمه، إلا أنه تحويل الأفراد لمتفرجين كما لو كانت عذابات الناس وآلامهم جزءاً من التباهي، مؤكدا أن ذلك مقلق ويؤرق الناس وله انعكاسات على الأطفال.