ضَبط الزمن في فلسطين
آيات عبد الله
عنان حميض، هو ضمن عدد قليل متبق من مصلحي الساعات في مدينة نابلس.. وتقلص عمله إلى زاوية صغيرة في محله، وحول ابناؤه الباقي إلى متجر للإكسسوارات المصنعة.
حميض الذي يعمل كساعاتي منذ عام 1979م ورث هذه المهنة عن والده، حين كان في المدينة في ذلك الوقت 38 ساعاتي يتقنون المهنة، العدد الذي يذكره بالتحديد، أما اليوم فعددهم أربعة فقط.
يقول عنان لـ 'وفا' :" عملنا مقتصر على تغيير البطاريات (...) قليل من يصلح ساعة إلا إذا كانت غالية مثلا أو يحتفظ بها صاحبها كذكرى".
لم يعد للساعة الشخصية ذلك الإنتشار الواسع، التي كانت تسور أيدي الطبقة الفقيرة والمتوسطة خلال الحرب العالمية الأولى.
لم يكن للدقائق والثواني معنى محدد، فكان سكان فلسطين والدولة العثمانية بشكل عام يقسمون النهار وفق مواعيد الآذان، فالساعات لم تكن متوفرة لدى الطبقتين الفقيرة والمتوسطة قبل الحرب لارتفاع ثمنها .
يؤكد الباحث في تاريخ القدس بشير بركات لوكالة "وفا" أن فلسطين عرفت الساعات الميكانيكية منذ العصور الأولى لصناعتها لكنها كانت مكلفة جداً، بحيث كانت تحسب ضمن التركة كما أوردت مئات الحجج الشرعية في محكمة القدس، وكان سعرها يفوق سعر البندقية، ويقارب سعر الحصان أحياناً.
وأضاف أن ما ينطبق على مدينة القدس في ذلك الوقت ينطبق على غيرها من باقي المدينة الفلسطينية، بنسب متقاربة، فالساعات الرملية والشمسية لم تكن تكفي لضبط الوقت بشكل دقيق.
إلا أنه ومع إنتهاء الحكم العثماني وخلال الحرب العالمية الأولى، تغيرات واضحة بدأت تظهر على المجتمع الفلسطيني.
يذكر المؤرخ والباحث عمر صالح البرغوثي في مذكراته "المراحل" بأن سكان المدن بدؤوا بإقتناء ساعات الجيب لتحديد بداية ساعات العمل ونهايتها خلال الحرب العالمية الأولى، وهي إحدى التحولات المهمة التي ظهرت في الحياة اليومية خلال تلك الفترة.
وهو ما يعني أن ضبط الوقت في الحياة المدنية اليومية بدأ في هذه المرحلة، وقد وصل هذا الإنضباط في الوقت إلى المواطنين من الحياة العسكرية للجيش العثماني الذي كان منتشرا في فترة الحرب، حيث أدخلت التعليمات العسكرية مفاهيم جديدة لتحديد الوقت كان الهدف منها تنظيم وتيرة العمل في الجيش والحفاظ على إنضباط العسكر.
وقد كانت ساعات الجيب خلال الحرب العالمية الأولى مكلفة لكنها في متناول يد المواطنين من الطبقات الوسطى، كما أوضح الدكتور سليم تماري في كتاب عام الجراد.
وما ساعد في ضبط ذلك التناغم بين الوقت والعمل، هو ظهور الساعات في الساحات العامة ففي عام 1901 أمر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بتوزيع 100 ساعة على مختلف المدن ضمن الدولة العثمانية، فكان نصيب فلسطين حينها سبع ساعات في عكا، ويافا، حيفا وصفد، والناصرة، والقدس، ونابلس، وقد شيدت لها أبراج عالية دلالة على أهميتها.
يصف المؤرخ جيمس غالفين تنصيب ساعة برج باب الخليل في مدينة القدس كمفصل تاريخي لإدخال التناغم بين الزمن الحديث وإنضباط العمل، ويشكل بذلك شاهداً على محاولة تنظيم القوى العاملة في القدس وإخضاعها لرتابة نظام العمل اليومي المحصور في ساعات دوام رسمية.
ساعة مدينة القدس لم تدم طويلاً، فقد علقت على البرج عام 1909، وهدمها البربطانيون عام 1922، إلا أن المقدسيين، شكلوا من ساعتهم هذه أسطورة تداولوها لزمن بعيد.
وعن هذه الأسطورة يقول الباحث هشام الرجبي لـ "وفا" :"فترة ظهورها وتفكيكها كانت قصيرة جدا، بحيث انها مرت كهامش في التاريخ، وبحكم طبيعة طفولتي اني كنت ارافق والدي للمقاهي احيانا واستمع لقصص كثيرة، كان الرجل وبنزق المقدسي الفاخر حد الثمالة يقول، كانت دقاتها تسمع من قرى غرب شمال القدس، بدو بيت عنان، وقالونيا، وأبو غوش".
وأضاف:" وبعد أن هدمها البريطانيون ووضعوا حجارتها في صناديق ونقلوها إلى بلادهم، تحدث المقدسيون مفتخرين بأن ساعة بيج بين في لندن هي ساعتنا المسروقة".
ويعلل الباحث بشير بركات :"الساعات التي أهديت للمدن الأخرى ورغم أنها قائمة إلى هذا الوقت لم تحظ بهذه الأساطير كساعة القدس، فقد كانت الأخيرة مميزة عن باقي الساعات، إضافة إلى أن المدينة يأمها حجاج ومسافرون طيلة العام".
ورغم الساعة الميكانيكية التي شيدت على الجهات الأربعة للبرج في باب الخليل إلا أن المسجد الأقصى لم يتخل عن ساعته الشمسية "المزوالة"، التي تقسم النهار إلى خمسة أجزاء وفقاً لظل الشمس المتكون بها، والتي استخدمت منذ العصور القديمة لتحديد أوقات الصلاة.
وصف الشيخ عبد الغني النابلسي إحداها خلال زيارته للقدس عام 1690 فقال: "في صحن جامع الصخرة من جهة الغرب قبالة قبة الطومار مِزولة مبنية بالأحجار، وفيها بلاطة كبيرة منصوبٌ عليها لوح من الحديد يُعرف بظله مقدار الماضي والباقي من ساعات النهار".
وما زال المسجد الأقصى يحتفظ بالساعة الشمسية وإن كان لا يعتمد عليها كثيراً في تحديد أوقات الصلاة بسبب التقدم الكبير في ضبط أوقات الأذان، وقد تجددت هذه الساعة عدة مرات، فالساعة التي وصفها الرحالة عبد الغني النابلسي، ليست ذاتها المعلقة اليوم على البائكة الجنوبية في المسجد الأقصى حيث نصبت هذه عام 1927 على يد مهندس المجلس الإسلامي الأعلى رشدي الإمام.