عمير دعنا..مشارك وشاهد على العصر طوال 75 عاما في القدس
عمير دعنا 81 عاما مشارك وشاهد " باللحم الحي" على العصر ، يروي ملامح سريعة من تجربته الفريدة مع الصحافة والسياسة ومساهماته الكفاحية والنضالية على مدار ثلاثة أرباع القرن ( 75) عاما من خلال ممارسة بيع الصحف والمجلات في منطقة باب العامود في القدس وأماكن أخرى من المدينة .
آداره رئيس النادي محمد زحايكه
في لقاء صحافي لنادي الصحافة المقدسي ،الذي يعقد في مقهى الكتاب الثقافي- المكتبة العلمية في القدس، أداره رئيس النادي محمد زحايكه ، بدأ دعنا روايته المؤثرة حول تجربته الغنية في الحياة من سني الطفولة الشقية الأولى . حيث يقول " ولدت في القدس عام 1929 في بيئة فقيرة مسحوقة .. لم أتمتع بأي شيء من حياة الأطفال .. شهدت ثورة 1936 وانا في السادسة أو السابعة من عمري .. واعتقل والدي وإخوتي الثلاثة الأكبر سنا على هذه الخلفية .. وصدر حكم بإعدام احد أشقائي (عمر) وهو في الثامنة عشرة بتهمة اغتيال احد المعربدين والمعتدين اليهود الذي كان يتردد على منطقة باب الخليل ويتحرش بالمواطنين العرب ، ولم ينقذه سوى قيام الوالدة ببيع قطعة ارضنا الوحيدة التي تملكها العائلة في الخليل بهدف تصغير عمره سنة واحدة وانقاذه من حبل المشنقة وتحويله الى السجن المؤبد بعد ان تعرض الى التعذيب الشديد ..!
النزول الى الشارع ..!
واضاف دعنا في ظل هذه الظروف المآساوية واعتقال معيل العائلة ، اضطررنا انا وأخي الآخر للنزول للشوارع والبحث عن عمل ونحن أطفال صغار .. وكان أن سمح لنا شخص يدعى يعقوب الجولاني ببيع الصحف في شارع مأمن الله في ذلك الوقت مثل الدفاع وفلسطين .. فكنت اصغر بائع صحف واليوم اكبر بائع صحف في فلسطين كلها ..! ومن يومها بدأت اصارع في الحياة .. واحصل على خمسة مليمات مقابل بيع خمس صحف وهكذا تمكنت وأخي من تأمين خبز وقوت العائلة يوما بيوم .. وكنا نفيق من الصباح الباكر ونبقى حتى بعد الظهر لبيع ما لدينا من صحف صيفا او شتاء..
وذات مرة نادى عليّ شخص من الرصيف الآخر لبيعه جريدة .. ومن لهفتي على البيع لتحصيل قوت يومي ، عبرت الشارع وكان معبدا على التو .. فغرزت قدمي في الزفتة اللاهبة ولم تخرج .. فصحت من قحف رأسي .. ليسارع البعض لإنقاذي من خطر محقق .. حيث عانيت زمنا طويلا من آلام مبرحة جراء هذه الحادثة.. فقد كنت أسير حافيا بدون حذاء لسنوات طويلة .. وبسبب حرماني من التعليم كنت متشوقا إليه .. فأخذت أتردد على بعض المقاهي في باب الخليل التي يرتادها بعض الزبائن المتعلمين واسأل عن شكل ومعنى حروف الكتابة حتى تعلمت شيئا فشيئا وأتقنت القراءة والكتابة مع مرور الزمن ..! وبدأت في قراءة كل ما يقع تحت يدي ومنها المجلات المصرية ثم باشرت مراسلة مجلة البعكوكة التي تهتم بالنكات والطرائف ..!
ولوج عالم الفن والسياسة ..
ويتابع عمير دعنا الحديث قائلا " تطور تفكيري بعد ذلك للكتابة في الفن وعن الفنانين من خلال مجلة دنيا الكواكب ليصار الى اعتمادي مراسل لها في فلسطين .. حيث التقيت بعضهم في فندق كنغ ديفيد - الملك داود - من امثال حسن فائق وفريد الاطرش واسمهان وزكية حمدان واخرين واجريت معهم احاديث عن الفن والافلام وهكذا إلى أن كان يوم من الأيام وفي شارع يافا حصل أن قام عدد من الأشخاص بشراء جرائد مني .. فأخذت أتردد عليهم بعدها لبيعهم المزيد من الصحف.. فتبين أنهم يتعاطون في السياسة وهم من عصبة التحرر الوطني – الحزب الشيوعي الفلسطيني لاحقا وكان من بينهم اميل حبيبي وتوفيق طوبي ونعيم الاشهب ومخلص عمر .
فوجدت نفسي قد انسجمت معهم وارتاحت لهم.. ومع حلول عام 1945 صاروا يعتبرونني واحدا منهم وطلبت الانضمام إليهم بعد ما رأيت كيف يدافعون عن الطبقات المسحوقة من عمال وفلاحين وما يرددونه من شعارات جميلة وجذابة.. واذكر أنهم وافقوا على انضمامي بعد أن راقبوني لمدة ستة أشهر ..! وفي هذه الأثناء درست النظرية العلمية – الماركسية اللينينية .. وأصبحت اكتب في السياسة والأوضاع السائدة في تلك الأيام خصوصا اثر حرب عام 1948 عام النكبة.
وأشار دعنا إلى كلمة حق وهي أن الحزب الشيوعي وعصبة التحرر الوطني كانت مع قرار التقسيم لعلمها ووعيها المبكر بالمؤامرة الدنيئة التي تخطط لها القوى الكبرى على مراحل لتصفية القضية الفلسطينية وان الشيوعيين استماتوا في تحذير الجماهير والقوى السياسية الأخرى للتعاطي بحنكة ودهاء مع مؤامرات الأعداء من الدول الكبرى الذين يدعمون اليهود ويمدونهم بالمال والسلاح في حين أن العرب ضعفاء ومتفرقين ولكن دون جدوى..! وروى كيف شارك في دخول قرية نحالين بعد أن انسحبت العصابات الصهيونية منها من خلال انضمامه إلى اللجنة القومية على الخطوط الأمامية عندما كان برتبة عريف وكيف أصيب مع ضابط آخر اثر انفجار لغم بهما لم يكن معروفا من قبل ..! حيث رّفع إلى رتبة شاويش بعد أن عولج من جراحه ..!
زمن الصعود ..!
وواصل دعنا العمل بعد ان التحق في معسكر للجيش الأردني لضباط وضباط صف في حلحول وصدرت أوامر من الحزب الشيوعي بضرورة توعية الجنود حول المؤامرة التي تحاك ضد القضية الفلسطينية ورغم عمله بحذر إلا انه تم طرده من الجيش بعد اكتشاف أمره في حين أن بقية زملائه أصبحوا من كبار قيادات الجيش.
وهنا عاد لبيع الصحف والنشاط الحزبي وتدريس الخلايا حيث كان مسؤولا عن متابعة خمس خلايا حزبية في وقت واحد بسبب طريقته المحببة في التدريس والتوعية الحزبية والسياسية.. ومرت الايام لتجري حملة اعتقالات عام 1954 على خلفية زيارة رئيس وزراء تركيا (جلال بيادر) ومحاولة ترويجه لحلف بغداد وسياسة ملء الفراغ التي قادها وزير الدفاع الامريكي ايزنهاور حيث اودع السجن حتى مغادرة الوزير التركي . لتموج البلاد بالمظاهرات بعدها ويتم صرف النظر عن حلف بغداد . وجاءت بعدها انتخابات حرة نزيهة لتصعد حكومة سليمان النابلسي بين اعوام 1954- 1956 ونجاح اربعة نواب شيوعيين منهم عبد القادر الصالح وفائق وراد ويعقوب زيادين وما تبعه من اقالة كلوب باشا عن قيادة الجيش الاردني واطلاق الحريات العامة والغاء قوانين استثنائية ، الامر الذي لم يعجب دول الاستعمار الجديد والقديم التي سارعت للانقضاض عليها واقالة حكومة النابلسي بعد ان تم الكشف عن عدد كبير من المناضلين والزج بهم في السجون .
ويروي دعنا كيف ان اكثر من 200 جندي قد احاطوا بيتهم في باب السلسلة بالبلدة القديمة بعد اعلان منع التجول واعتقاله مع احد اشقائه ونقلهم في شاحنات ليلا الى معسكر العبدلي في عمان ولدى وصولهم يقوم حلاق بجز شعورهم على شكل صليب ثم يلقون في خيام وسط الضرب والاهانات . ويحكي حكاية البدوي البسيط راعي الجمال عند احد الباشوات في عمان الذي تم اعتقاله رغم انه ليس له ناقة ولا جمل في الموضوع كله .. وكيف اشار عليه دعنا للخروج من هذ المصيبة بالقول انه شيوعي بعثي من حزب الملك اطال الله عمره..! فينجو البدوي ويتعرض دعنا للعقاب العسير في الطريق الى معتقل الجفر الذي مكث فيه قرابة العام ..! وفي السجن اتيحت له قراءة كتب كثيرة خاصة حول الديانات السماوية والوضعية .. لتستيقظ الغريزة الدينية لديه وليصبح مقتنعا بمبادئ الاسلام العظيمة.
اساتذة الارهاب ..!
ويعتبر دعنا – ابو سلام- ان الصهاينة هم من ابتدع الارهاب في المنطقة من خلال اغتيال الكونت برنادوت واللورد دوموين السفير البريطاني في القاهرة في الاربعينات من القرن الماضي والتفجيرات الوحشية التي قاموا بها مثل تفجير فندق الكنغ ديفيد وغيره الكثير ، واحدى التفجيرات في باب الخليل التي نجا منه هو نفسه بأعجوبة.. ! وحكى ضاحكا عن احد النواب المرشحين التقليديين للبرلمان الاردني الذي زجر احد المتحدثين في السياسة اثناء الحملة الانتخابية صائحا .. كف يا هذا .. نحن مرشحين للبرلمان ولا دخل لنا بالسياسة ..!!؟ كما قال
على الدرب ماضون ..!
وتداخل الكاتب محمد موسى سويلم بخصوص الفوارق بين باعة الصحف قديما واليوم من حيث الفرق بين عصرين وزمنين مختلفين وحث ابو سلام على اهمية تسجيل وتوثيق تجربته الرائعة الفريدة التي يجب ان لا تبقى حبيسة لديه فهي اصبحت ملكا للجميع للاطلاع عليها والاستفادة منها .. آملا ان ترى النور قريبا .. وكيف كان الكتّاب والمفكرون قديما هم المصدر والاصل كما ورد على لسان الاعلامي الراحل محمد ابو شلباية ! وتساءل الكاتب عيسى القواسمي عن اهم الاحداث التي انعكست على زيادة بيع الصحف؟ فرّد ابو سلام .. بان هناك احداثا كثيرة .. مثل تأميم قناة السويس في الماضي واغتيال الملك عبد الله مثلا وحديثا غزو العراق وتدميره ..!
واعتبرت الكاتبة ريم المصري ، " ابو سلام" رمزا من رموز الثقافة في القدس ومعلما هاما من معالمها واعمدتها .. ولاحظت كيف يمكن للانسان الواعي والطموح ان يكوّن موقفا ايديولوجيا عن طريق العمل البناء المثمر.. والاطلاع على اسرار العمل الصحفي الذي عرّفه على النخبة في المجتمع من رجال الفكر والثقافة والسياسة من عرب واجانب من امثال جورج حبش وصبحي غوشة ايام حركة القوميين العرب واللورد كارادون صاحب قرار 242 وكثيرين . ورأت ان الاحداث الكبيرة في الماضي ساهمت في صياغة جيل من العظماء من مفكرين وكتّاب الذين اكتووا بنار المعاناة واعتمدوا على انفسهم في التعلم والحصول على المعلومة وتحصيل الثقافة المتينة وافرزت تلك المرحلة بالتالي اناسا مثقفين واعون بحق ولهم مصداقية وتأثير كبيرين بعكس العديد من مثقفي هذه الايام ، وتجادلت الكاتبة نسب حسين مع الصحفية ديمة دعنا حول تغير مفهوم المثقف ودور وسائل الاعلام بين الماضي والحاضر بسبب القفزة والثورة في وسائل الاتصال والاعلام ؟ وتساءل المسكون بالشأن الثقافي عماد منى عن طبيعة المضايقات التي تعرض لها ابو سلام في عهد الاحتلال الاسرائيلي الزائل ومحاولاتهم التعرض له اكثر من مرة بالحبس والاعتقال وسحب الترخيص ولكنه كان يقاومهم بخبرته وقدرته على التحمل والنضال . كما تساءل عن دور شريكة الحياة في هذه الرحلة النضالية الحافلة؟ ورد نادر دعنا بالقول ان ما لدى الوالد وفي جعبته هي احداث واقعية وهو شاهد حي ومشارك في الاحداث فريد من نوعه في هذا العصر، كوّن حصيلة لغوية من عدة لغات عالمية بدأبه و اجتهاده وحبه للعلم والتعلم . وانه اسمى ابنه البكر سلام لكونه عضوا في مجلس السلام العالمي في تلك الفترة.
وكان مسك الختام ، عندما تطرق ابو سلام الى تربية وتعليم اولاده الاربعة سلام ومازن ونادر وسامر حيث اصّر على تعليمهم تعليما عاليا راقيا حتى تبوأوا مراكز علمية وطبية ممتازة في مجتمعهم المحلي ، لانه اراد ان يعّوض الحرمان من التعليم لديه من خلال غرسه في اولاده رغم ما كلفه ذلك من جهد جبار ومصاريف وتكاليف باهظة تنوء الجبال بحملها .