44 عاما على استشهاد "جيفارا غزة" والحايك والعمصي
خالد جمعة
ربما غطى اسم "جيفارا غزة" على الاسم الحقيقي لمحمد محمود مصلح الأسود، هذا الثائر الذي صنع مع رفاقه في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، قلقاً دائماً، دفع وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك موشيه ديان، لأن يقول: "نحن نحكم غزة في النهار وجيفارا يحكمها في الليل"، وبالطبع أخذ لقبه من الثائر الأرجنتيني أرنستو تشي جيفارا، الذي اشتهر بثوراته التاريخية ضد الظلم والاستعمار.
ولد محمد الأسود "جيفارا" في 6-1-1946 في مدينة حيفا، وخرجت أسرته بعد النكبة إلى قطاع غزة وهو ما زال في شهوره الأولى، وسكنت العائلة أحد مخيمات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا".
حاول إكمال دراسته الجامعية في مصر، لكن الفقر لم يمكن عائلته من مساعدته، فترك الدراسة وعاد إلى قطاع غزة، بعد أن أمضى عاماً واحداً عمل خلاله موظفاً بسيطاً في مصر.
انضم "جيفارا" إلى حركة القوميين العرب عام 1963، وأصبح بعد وقت قصير من عناصر التنظيم النشطة في قطاع غزة، وبعد نكسة حزيران 1967 أصبح قائداً لإحدى المجموعات المقاتلة في منظمة "طلائع المقاومة الشعبية"، لينضم لاحقاً إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وينفذ مع مجموعته عدة عمليات جريئة خلال بدايات العمل المسلح، ومن نتائج عملياته إيقاف الصهاينة عن زيارة قطاع غزة.
اعتقل في 15-1-1968 وبقي في السجن لعامين ونصف، ثم أطلق سراحه في تموز 1970، ولم يكن الاحتلال يعرف أن محمد الأسود هو جيفارا أثناء فترة سجنه، فواصل نضاله فوراً بعد خروجه من السجن في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقام بنشاط مكثف لإعداد المجموعات العسكرية وتدريبها وتثقيفها، وتدرج بجدارة في موقعه التنظيمي لما بذله من نشاط وانضباطية عالية وجدية وقدرة على الإبداع والمبادرة، حتى أصبح نائب المسؤول العسكري، ثم تولى المسؤولية العسكرية بعد استشهاد رفيقه وتسلم قيادة العمل العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في قطاع غزة حتى استشهاده.
قاد رفاقه الثوار تحت أجواء المطاردة والخنق التي مارستها السياسة العسكرية الإسرائيلية بوزير جيشها موشيه ديان، واستطاع بسرعة ربط التنظيم السياسي والعسكري، واهتم بإنشاء اللجان العمالية والنسائية والاجتماعية ورعاية أسر الشهداء، وحتى ترتيب مكتبة مركزية ومكتبات فرعية في القطاع للتثقيف السياسي والحزبي.
استطاع أن يكسب ثقة أبناء غزة حين تصدى لمؤامرات الاحتلال في تهجير سكان غزة بأن نظم مظاهراتهم وإضرابهم الكبير. كما عاقب الخونة وعملاء الاحتلال بعد أن حاكمهم، ووضع شعاراً لمحكمة الثورة هو "إن الثورة لا تظلم.. لكنها لا ترحم".
كان يخاطب رفاقه المقاتلين حول الانضباطية الملزمة لكل ثائر: "تعلموا من تجارب رفاقنا الذين سبقونا في النضال"، وقد كان يتقبل النقد برحابة صدر، بل ويشعر بالارتياح لأن رفاقه واعون متابعون، وكان يقول "أتمنى دائما أن توجهوا لي النقد البنّاء، وأعترف أنني أخطأت".
أحبته الجماهير، وصار اسمه على كل لسان، وكان يردد: "حافظوا على علاقتكم بالجماهير فهي سلاحكم وسندكم، تقيدوا بتعاليم الحرب السرية، التزموا بذلك وتقيدوا به جيداً، وعندها لن تستطيع قوة مهما عظمت الوصول إليكم، المهم أن نبتعد عن المسلكية العاطفية، بل تجردوا من العواطف إلا من حبكم وتقديركم لثورتكم"، ومثله كان دائما: من لا يحافظ على نفسه لا يحافظ على ثورته، وإنك لن تموت إلا إذا أخطأت.
ابتكر جيفارا العديد من وسائل التخفي التي كانت تسهل عليه الإفلات من قبضة العدو مرارا، فأربع سنوات من المطاردة في مكان صغير مثل قطاع غزة، لن يكون ممكناً دون عقلية عسكرية فذة، لذا فقد ظل لغزا محيرا للعدو، وقد قاد نضال الجبهة طوال آخر ثلاث سنوات من حياته.
لم تكن تمضى عليه أربع ساعات في مكان واحد، أوجد له ملجأ في كل مكان من قطاع غزة الضيق، وقد جن جنون العدو يوم أن قام باحتلال غزة عسكرياً، أكثر من عشرين ألف جندي مجهزين بكل وسائل التحرك والاتصال الحديثة مستخدماً العديد من الطائرات الطوافة بحثاً عنه وعن رفاقه، لم يتركوا مدينة ولا قرية ولا حارة ولا زقاقا ولا بستانا، بل لم يترك شبراً في قطاع غزة الا ودخله ولكن خابت آمالهم وفشلت خططهم أمام عبقرية جيفارا العسكرية.
جيفارا هو من وضع تكتيك "اضرب عدوك ضربات سريعة متلاحقة وفي أماكن عدة متباعدة وفى نفس الوقت، حتى يفقد صوابه وحتى لا يترك له مجال للبطش بمنطقة منفردة". وحادث يوم 6/7/1971 شاهد علي ذلك، عندما اقتحمت مجموعة من رفاق جيفارا منطقة محاصرة وقذفوا تجمعات العدو بالقنابل وأمطروهم بالرشاشات، ما أدى إلى مقتل أربعة جنود إسرائيليين وجرح العديد منهم، وكان ذلك على مرأى الجماهير المحاصَرة، ما تسبب في إرباك قوات الاحتلال ورفع معنويات المحاصرين.
كانت من نتائج هذه العملية المباشرة أن تراجع الاحتلال مرغما عن أسلوب العقاب الجماعي واقتصر بعد ذلك على فرض حصار جزئي على منطقة الحادث لساعات فقط.
وهو كذلك واضع خطط استدراج العدو، حيث يحدد جيفارا المكان والزمان، فيقع العدو في المصيدة، فقد نصب الثوار كميناً لدورية للاحتلال وفى نفس الوقت كانت مجموعات خاصة تنتظر قوات نجدة العدو التي تأتي عادة بعد كل حادث وفاجؤوها بوابل من الرصاص والقنابل مما خلخل انضباطه العسكري وفتت قواته، وفقد أحد سائقي عربة "لوري" محملة بالجنود أعصابه وتدهورت العربة فى وادى غزة من فوق الجسر.
اتبع جيفارا أسلوب الكر والفر، فبعد كل ضربة توجه للثوار، كان يأمر بالتريث وإعطاء الفرصة للمراقبة والمتابعة وإعطاء الوهم للاحتلال بأن الثورة انتهت، كما أن ذلك كان يعطى الأمان للعملاء والمطلوبين لمحكمة الثورة فيأخذون بالظهور من جديد وبعدها يكون جيفارا قد أعاد ترتيب الأوضاع التنظيمية والعسكرية وانتهى من وضع مخططات العمل المستقبلي حيث لا يتوقع الاحتلال وعملاؤه ذلك.
في التاسع من آذار عام 1973 تمكنت قوات الاحتلال من معرفة مكان وجود جيفارا، فحاصرت البيت الذي كان متواجداً فيه خلف مستشفى الشفاء بمدينة غزة، مستعينة بمئات الجنود والدبابات وبغطاء جوي، ورغم هذا المشهد لم يستسلم جيفارا ورفيقيه عبد الهادي الحايك وكامل العمصي، واشتبكوا مع قوات الاحتلال إلى أن استشهد ثلاثتهم، وحضر وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي في ذلك الوقت موشيه ديان إلى غزة بنفسه للتأكد من استشهاد جيفارا غزة، وكان قد قال مرةً: نحن نحكم غزة في النهار، أما جيفارا فيحكمها في الليل، وقد أدى الضابط المسؤول عن الهجوم التحية العسكرية لجثمان جيفارا ورفاقه، وقام الجنود الإسرائيليون بتوزيع الحلوى بعد تأكد خبر مقتله.
ترقد الجثامين الثلاثة الآن متجاورة في مقبرة الشيخ رضوان في شارع اللبابيدي في مدينة غزة، وقد قام المخرج الفلسطيني خليل المزين بعمل فيلم حمل عنوان "جيفارا غزة" عن حياة جيفارا.