الخزانة الحديدية في محكمة نابلس الشرعية
جميل ضبابات
يصل المراجعون على عجل إلى إحدى الغرف في طابق من بناية متعددة الطبقات في حي رفيديا بمدينة نابلس حيث يقع مقر المحكمة الشرعية لإنجاز معاملاتهم.
ما أن يخطو احدهم الخطوة الأخيرة متعبا من صعود درج البناية حتى يتكئ على خزانة حديدية في انتظار فحص معاملته.
لكنها ليست أية خزانة؟
صحيح أنها ذات تصميم كلاسيكي بسيط من ناحية فنية، ويندر أن تقتنى اليوم في المؤسسات الحكومية العامة أو في المنازل.
لكنها ببساطة تحفظ الذاكرة الجماعية الفلسطينية.
لا احد يطلب أوراقا من هذه الخزانة عموما.
إلا أن سليم طوقان وهو احد موظفي المحكمة الشرعية التي ينجز معاملات المراجعين اليومية، يتعامل بين الوقت مع ثاني أقدم قيود حكومية فلسطينية ما زالت المحكمة الشرعية في مدينة نابلس تحتفظ بها.
ويعود أقدم هذه القيود إلى نحو 4 قرون مضت.
عندما طلب من طوقان فتح أقدم وثيقة مسجلة في أقدم سجل باشر بقراءة خط صعب على التفكيك لعقد زواج لشابين من مدينة نابلس يعود تاريخ ارتباطهما رسميا إلى العام 1665 ميلادي.
" هذا المجلد بالتحديد يعود له بعض المراجعين بين الوقت والآخر" قال الرجل.
وحشرت الوثائق في أربعة رفوف داخل الخزانة التي تتوسط الغرفة.
وعندما طلب من طوقان عد المجلدات التي تضم تلك القيود قال، بعد ان عدها بصوت ظاهر: "97".
قبل نحو 100 عام كان القضاء الشرعي قضاء عاما في فلسطين وينظر في كل قضايا المواطنين.
وتحتفظ محكمتا نابلس والقدس الشرعيتان بأقدم أرشيف رسمي فلسطيني حتى اليوم. وهو ما يعرف بسجلات المحاكم الشرعية.
لكن ليس لطوقان أو أي موظف آخر إخراج ورقة رسمية بسهولة من بين آلاف الأوراق المكدسة بدون تبويب علمي واضح حتى اليوم.
لكن الأرشيف الذي حسم في القرن الماضي الكثير من القضايا الفلسطينية المحلية وارتباطات تجارها وزعماء المنطقة الداخلية والخارجية "مفتوح بحدود على المستويين الوطني الدولي"، قال عبد الله حرب رئيس المحكمة الشرعية.
وحسبما اخبر حرب مراسل وكالة "وفا" فقد" ينقل الأرشيف إلى غرفة جديدة مخصصة له في بناء جديد ما زال قيد التخطيط.".
مع ذلك لا ينفي طوقان خوفه الشديد على هذه الأوراق المعمرة منذ قرون.
" في المقر الجديد سنضع الأرشيف في مكان يليق به" أضاف حرب.
وليس معروفا مصير هذا الأرشيف في حالات الطوارئ. لكن نسخا الكترونية منه اخدت في الماضي وارشفت في جامعات وطنية وأخرى إقليمية، كما قال حرب.
شهد القرن الماضي في وقت لم يحدد بالضبط فيضان من احد الينابيع الذي تفجر في وسط نابلس، وعندما فاض الماء ووصل إلى مقر المحكمة القديم في مركز نابلس القديمة، اخذ معه بعض هذا الأرشيف.
هكذا يروى في أروقة المحكمة اليوم، وفي الكتب التي أرخت لتاريخ نابلس الحديث.
" هناك فترات تاريخية متقطعة ليس لها أرشيف يحكي سيرتها (...) قد يكون حصل فراغ دولة او نقلت فيها صلاحيات المحكمة إلى أخرى، أو اضطرابات وقعت في المدينة". قال حرب.
تشير قراءة متأنية لبعض الوثائق التي قلبها موظف المحكمة بين يديه إلى الحركة الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية في المدينة.
في إحدى الوثائق التي تعود إلى مئة عام مضت يمكن أن تسرد كم من الجهد عانى احد الرجال كي يستعيد زوجته التي خرجت من دون إذنه.
تظهر الوثيقة أن أكثر من عملة دولية استخدمت في ذلك الوقت كنفقة أو كمهر للزوجة.
قال طوقان" هنا يوجد كل شيء (...) ما زال الناس هنا يأتون لحل قضايا الميراث معتمدين على وثائق عمرها مئات السنين".
وكل شيء، قد يكون فرمانا حكوميا عثمانيا بعد انتصار الجيش التركي في احد معاركة.
عمل أيمن عودة مدة 30 عاما في محكمة نابلس الشرعية، وخلال تلك السنوات مر على مجلدات الأرشيف الحكومي كثيرا.
من الفرمانات التي ما زال يذكرها، طلب الحكومة العثمانية من مواطني المدينة الاحتفال سبعة ايام بعد انتصار الجيش التركي في احد معارك البلقان.
قال أبو عودة لمراسل "وفا" "هذا تاريخ فلسطين هنا (..) هنا الأرشيف الحكومي وذاكرة البلاد كلها".
" قد تجد تدخل القضاء في ذلك الحين في قضية رفس حمار لمواطن. وتجد أيضا اكبر القضايا".
بالنظر إلى بعض السجلات يمكن أن يشمل المجلد الواحد قضايا هي الآن من اختصاص وزارة المالية وقضايا حقوقية من اختصاص المحاكم المدنية.
وأخرى سرد الأنساب وأسماء العائلات.
فذاته أبو عودة توصل إلى شكل شجرة عائلته مستعينا بالسجلات التي عمل على تفحصها يوما بعد يوم طيلة السنين الطويلة التي عمل فيها داخل المحكمة.