الأسير الذي ترك الفرس وحيدة
سامي أبو سالم
يسمع نايف أبو عاذرة صهيل الخيل فيقف على شباك بيته المطل على البستان، يمتّع نظره بابنه "دفاع" الذي يمتطي صهوة فرسه ويجول بها بين الأشجار، تقفز من فوق الأعشاب الجافة مثيرة الغبار وتزاحم زهر الليمون لتنثر الشذى في البيت، فيعود نايف ينفث دخان سيجارته ويرتشف قهوته الممزوجة بدخان الحطب.
هذا المشهد تلاشى، ولم يعد سوى ذكرى مرت عليها تسع سنوات، بعد أن اختطفت قوات الاحتلال دفاع من بيته في بيت حانون، شمال غزة، في عملية خاصة في نيسان 2008، كما يقول والده نايف.
"كانت عملية سهلة لهم، فحن مواطنون عزل والبيت يبعد عن الحدود بالكاد كيلومتر واحد"، يضيف نايف.
وشاركت في اعتقال دفاع قوات خاصة وآليات عسكرية وطائرات استطلاع."اعتقل دفاع وترك الفرس وحيدة فلم أحتمل رؤيتها كل يوم بدونه... لقد بعتها"، قال نايف بنبرة لم تخلُ من حسرة.
بعد الاعتقال بعدة أشهر، شن الاحتلال في كانون الأول 2008، عدوانا واسعا على قطاع غزة، وأطلق على العملية "الرصاص المسكوب"، ودمر خلالها منزل أبو عاذرة واصطبل الخيل وجرّف بساتين الليمون.
حكم الاحتلال على دفاع بالسجن الفعلي 28 عاما، بتهمة الانتماء لحركة فتح وتهم أخرى لها علاقة بمناهضة الاحتلال، كما يقول والده.
ويشارك دفاع مئات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، الإضراب المفتوح عن الطعام لليوم الثامن عشر على التوالي.
لم يخف الوالد قلقه على الابن الأسير وشعوره بالألم الذي ينتاب ابنه. وقال "قلق جدا على صحته، أتوقع أن يأتيني بتابوت ملفوف بعلم".
ويتخيل الأب ابنه دفاع وقد دخل مرحلة الخمول وقلة الحركة وألم العينين والرأس. ويقول "جرّبت الإضراب عن الطعام وأشعر بما يشعر به ابني وهذا ما يزيدني قهرا".
نايف أبو عاذرة البالغ من العمر 57 عاما، اعتقل من قبل قوات الاحتلال وأمضي في السجن عدة سنوات، خاض خلالها الإضراب عن الطعام عندما كان تقريبا في سنّ ابنه دفاع الذي يبلغ الآن 32 عاما.
ويتابع الأب تفاصيل أخبار الإضراب عن كثب، ويقول إن إدارة السجون سحبت الملح من المعتقلين.
ويلجأ الأسرى إلى شرب الماء الممزوج بالملح أحيانا للحفاظ على سلامة الأمعاء وحركتها ما يجنبها التعفن.
ويحذر مختصون من جدية المخاطر الصحية التي يتعرض لها الأسرى في الإضراب، الذي قد يؤدى إلى حالات وفاة، خاصة بعد مرور ثمانية عشر يوما.
ويقول نايف إن الخوف والقهر والشعور بالعجز هو ما يسيطر عليه وعلى أفراد العائلة. "تتألم خوفا على فلذة كبدك ومستعد للتضحية من أجله، لكن عمليا لا تستطيع أن تفعل أي شيء... لا شيء".
وحتى الطفل بكر، ابن السبع سنوات، شقيق دفاع، يسأل أباه كيف يساعد شقيقه الأسير. "هل أشعل إطارات ليخرج منها دخان أسود كما كنتم تفعلون؟ كيف أساعد دفاع؟" يسأل بكر، الذي لم ير أخاه قط.
وأشار الأب إلى أن إدارة سجون الاحتلال تلعب على التناقضات وتمارس الضغط النفسي وتبث أخبارا كاذبة، فتبلغ أسرى أن زملاء لهم أنهوا الإضراب كاذبة، إلا أن الوعي ووحدة الكلمة هي سلاحهم الأقوى، فالقول الفصل عند مروان البرغوثي، كما يقول أبو عاذرة.
ويقود البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح"، الإضراب المطلبي منذ السابع عشر من نيسان الماضي. وحتى الآن، لم تظهر أي مؤشرات حول نية الاحتلال الاستجابة لمطالب الأسرى.
وتتواصل الفعاليات الشعبية ومسيرات وحملات التضامن في فلسطين وفي دول كثيرة في العالم، دعما للأسرى ولرفع روحهم المعنوية.
ويلجأ نايف أبو عاذرة، إلى خيمة تضامن في ساحة السرايا وسط مدينة غزة كل يوم، ويشارك في أي نشاط يخص دعم الأسرى.
"هذا كل ما أستطيع أن أفعله من أجل المعتقلين، أساهم في دعمهم وإيصال صوتهم، وأخفف من احساسي بالعجز أيضاً."
لكن حدقتي عينيه توسعتا حينما قال إنه يتمسك بسلاح الأمل، فصحيح أن دفاع في خطر، لكنه يأمل بالإفراج عنه قريبا بطريقة أو بأخرى.
وحول ماذا أعد أبو عاذرة لابنه البكر في حال الإفراج، لمعت عيناه وقال: "حضَّرتِلُّو حُضني، حضني بيسْتَنّه فيه [بانتظاره]" قال أبو عاذرة وهو يفتح ذراعيه على وسعهما ويرفع رأسه إلى السماء. وأضاف أنه سيشتري لابنه فرساً، " فرس أصيلة..." قال وضحك.
وفي الثقافة العربية، يشار أحيانا إلى المرأة الجميلة قوية البنية والنسب بـ"الفَرَس الأصيلة".
وكان دفاع يمارس الفروسية ويشارك في سباقات الخيل المحلية ويعتني بالفرس كابنته الصغيرة، وفقا لوالده نايف.
والوالد محروم من حضن ابنه بل ومن رؤيته بشكل كاف، فخلال السنوات التسع الماضية، لم يسمح الاحتلال له بزيارته سوى ثلاث مرات، لأنه "ممنوع أمنيا".
ويطالب الأسرى إدارة السجون الإسرائيلية بتحسين ظروف وشروط الزيارات. ويُسمح حاليا في أحسن الأحوال للعائلات الفلسطينية، سيما الغزية، بزيارة مرة واحدة كل شهرين.
لكن معظم ذوي القربى من الدرجة الأولى، يُمنعون من الزيارة لأسباب "أمنية"، كما توقفت الزيارات مع بدء الإضراب.
ــ
ha