مسحة.. يوم كانت سوقا
يامن نوباني وعُلا موقدي......
"هون كان محل، وهون، هناك محل، وهناك، هذا كان محل، كل هذا الشارع على الجانبين كان محلات. ذهبت المحال التجارية وبقي الشارع، مهجورا وبائسا، فش حدا بروح، فش حدا بيجي، يقول عيد عامر (51 عاما) لـ"وفا".
إنه سوق مسحة القديم الواقع في قرية مسحة إلى الغرب من مدينة سلفيت، السوق الذي انتقل بعد العام 2000 (دخول انتفاضة الأقصى) من حياة وضجيج وحيوية تبدأ في الثامنة صباحا وتنتهي عند الثانية عشرة ليلا، إلى هدوء لا تكسره مركبة مارة، لا أصوات ماكينات تعمل، لا دخان يخرج من موقدة شواء كانت يوماً "مطاعم وجبات سريعة". على اليافطات كُتب: معرض مفروشات.. أبو.. للأثاث ، ولا كنبة واحدة، يجلس فوقها زبون ليتحسس ملمسها، لا غرفة نوم أو مطبخ أو فرشة يُلقي عليها عروسان نظرات تمنٍ أو تفحص.
وحشة تُعمر في الشارع، وكأنه خارج من نزوح كبير، أو كأنه لم يكن يوما ممرا للشاحنات المحملة بالبضائع والأدوات المنزلية والصحية ولوازم النجارين والحدادين، لا بشر يرتبون مشترياتهم في مركبات نقل خاصة.
ألواح من الصفيح المعدني "الزينكو" أزيلت أو سقطت لوحدها وكأنها لم تتحمل قساوة ما جرى، أقفال صدئت بفعل الإغلاق الطويل، وطلاء أبواب مصالح تهاوى وتعتق، وفي ما ظل حياً بداخل السوق غبار يُغطي قطع أثاث وكراسٍ خشبية لم تجد قبل سنوات من يحملها معه إلى بيته.
وأضاف عامر: كما ترى لا تستطيع اليوم أن تفتح عملا، لأنك لا تجد من تسوّق له بضاعتك، الكثافة السكانية تقلصت بشكل رهيب، الناس هنا تضررت بشكل كبير، عشرات المستثمرين وقعوا في البطالة والدين.
وبين عامر أن البعض حاول إعادة تجديد وإحياء السوق، لكن الظروف الاقتصادية والأمنية والجغرافية الصعبة حالت دون ذلك، وبقيت بعض المحاولات أو كما أسماها "المغامرات" قائمة، مسترشدا بذلك بقول "واحد بنجح عشرة بفشلوا".
وحول تجربته الشخصية مع السوق، قال عامر: كان لدي 20 محل إيجار على امتداد الشارع، جميها اليوم مغلقة، وحتى في حال تم تأجير بعضها فإن ذلك لا يعني شيئا، فإيجار المحل الواحد هبط من 2000 دينار إلى 500 دينار سنويا، وأحيانا يفشل عمل المستأجر ما يضطره إلى تأجيل دفع مستحقات الإيجار، "أنا شخصيا لم يعد بمقدوري العمل هنا، 15 عاما وأنا بلا عمل وهذا أفضل من الدخول في عمل الخسارة فيه مؤكدة".
التاجر أحمد عامر قال لـ"وفا": دخل هذا الشارع كان يعادل دخل أسواق مشهورة في فلسطين، لكن مع فتح الشارع الجديد وبناء جدار الفصل العنصري تحوّل إلى شارع فرعي، وأغلقت الناس محالها وانتظرت طويلا أن يتم إعادة إعمار الشارع بالناس والمحال، لكنه اليوم تحول إلى منطقة أشباح، بعدما كان يأتيه المستثمرون من كافة المناطق والمدن، حتى من غزة كانوا يأتون إليه للاستثمار.
وأضاف عامر: هذا الشارع في عزه احتوى كل الأشياء والأعمال، كل ما يحتاجه الشخص والبيت كان يجده هنا، وخاصة المصالح التصنيعية كالحدادة والنجارة والشايش والأثاث، والسوبرماركت، والمشاتل، والبسطات، والتحف.
يبدأ سوق مسحة القديم من مفترق القرية، حتى مدخل مستوطنة "الكانا"، بحيث يمتد مسافة كيلومتر ونصف قبل أن يرتطم ببوابات الاحتلال الحديدية وأسلاكه الشائكة، حيث كل شيء على أرض فلسطين يُعيق تقدمه وازدهاره نقطة عسكرية أو حاجز أو بوابة مستوطنة.
وتعد "الكانا" أول مستوطنة أقيمت على أراضي منطقة سلفيت، وذلك عام 1978 على أراضي قرية مسحة وأراضي قرية الزاوية، غرب مدينة سلفيت وجنوب غرب مدينة نابلس، وهي عبارة عن تجمع استيطاني. في البداية سيطرت على معسكر للجيش الأردني كان قائما قبل العام 1967 على أراضي قرية الزاوية في موقع يسمى "جبل الحلو"، ومساحته 50 دونمًا، وكانت من نوع الناحل (مستوطنة شبه عسكرية).
صادرت "الكانا" حوالي 1025 دونمًا من أراضي قرية مسحة، وتوسعت أواخر العام 1998 على حساب أراضي الزاوية، حيث صادرت 100 دونم من أراضيها، كان عدد سكانها عند تأسيسها في العام 1978، حوالي 50 مستوطنًا تقريبًا؛ ثم تطورت ليصبح عدد سكانها مع نهاية العام 1998، حوالي 2920 مستوطنًا، اكتسبت اسمها من وادي قانا القريب، وهي حلقة وصل بين السهل الساحلي ومدن الداخل (أراضي 1948)، وبين المستوطنات المقامة على أراضي المنطقة.
تبلغ المساحة الكلية للمستوطنة لغاية السياج الذي يحيط بها، حوالي 1757 دونمًا؛ فيما تبلغ مساحة مسطح البناء فيها حوالي 867 دونمًا، لغاية العام 2014؛ وبالتالي يكون مجموع مساحة الأراضي الخالية من البناء والمطوقة بالسياج وغير المستغلة من قبل المستوطنة، والتي تقع بين مسطح البناء وسياج المستوطنة، 890 دونمًا. وتعمل المستوطنة على التمدد بها بالتدريج؛ فيما بلغ عدد سكانها حتى نهاية العام 2012 حوالي 3860 مستوطنًا.
أعشاب نبتت بكثافة مكان الأقدام التي كانت تجول في المكان، فلا أحد يوعس على التراب ليمنع نمو الحشائش، لا أحد ينادي على بضاعته أو يرتبها في الصباح الباكر، لا أطفال صغار يبيعون العلكة والمياه والمشروبات الباردة، لا مركبة تُطلق بوقها لمركبة أخرى أو شخص يقطع الطريق فجأة.
على موقع "يوتيوب" بضع مقاطع فيديو من دقائق معدودة، أسماها ناشرها "ذكريات سوق مسحة"، وفي خلفية التصوير تخرج أصوات مطربين ومطربات: ولا واحد ولا مية، يلا هوا يلا شوق، تعالالي، لاقيتك والدنيا ليل.. وغيرها من أغاني التسعينيات.
وتظهر المقاطع تجوال المتبضعين، وحركة المركبات، وكأن السوق يقع في قلب مدينة وليس على طرف قرية مهمشة، وفي تلك المقاطع تظهر حاجيات ومواقع لم تعد قائمة، عصافير معلقة في أقفاص على باب أحد المحال وطيور مختلفة في الأقفاص، صالات أفراح ومحال صرافة، أنواع تبغ قديمة: فريد، عالية، وسام، وأشخاص يحملون أصص ورد وأشتالا وفخارا.
ذهب سوق مسحة، وربما لن يعود، وإن تأمل التجار وأهالي المنطقة عودته، فأسواق جديدة تفتتح أبوابها وتتنافس فيما بينها، بينما سوق مسحة لا يُأتى على سيرته، وكل ما بقي منه ريح تُحرك أغصان الأشجار القريبة من المحال المغلقة أو التي بلا عمل، وبضع تجار يُعلون أصوات الراديو ليؤنسوا وحشة المكان، وطيور تحط براحتها على الأرض،، تلتقط طعامها وتطير قريبا، فالمكان آمن.
ha