"الصغار" لا ينسون
زكريا المدهون
قبل تسعة وستين عاما، قالت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مئير عبارتها المشهورة: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، فصدقت عندما مات الكبار لأن الأعمار بيد الله، لكنها كذبت عندما لم ينسَ الصغار.
بعد مرور نحو سبعة عقود على نكبة فلسطين وتهجير أبنائها في أصقاع الأرض، رحل غالبية من عايشوها وبقي آخرون على قيد الحياة، لكن تفاصيل "البلاد" لم ترحل من ذاكرة الصغار التي يحلمون بالعودة اليها.
بين أزقة مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، ترعرع عبد الرؤوف عليان (43 عاماً)، الذي لم ينس قط بلدته الأصلية "هربيا" التي تحدّ قطاع غزة من جهة الشمال.
"حتى آخر أنفاسه كان والدي رحمه الله يحدثنا عن "هربيا" البلدة الجميلة التي دمرتها العصابات الصهيونية"، قال عليان لـ"وفا".
ويحيي الفلسطينيون اليوم، الذكرى التاسعة والستين لنكبة فلسطين وتحويل أبنائها الى لاجئين مشردين في جميع دول العالم.
"النكبة" مصطلح فلسطيني يبحث في المأساة الإنسانية المتعلقة بتشريد عدد كبير من الشعب الفلسطيني خارج دياره، وهو الاسم الذي يطلقه الفلسطينيون على تهجيرهم وهدم معظم معالم مجتمعهم السياسية والاقتصادية والحضارية في العام 1948.
يعيش سكان مخيم الشاطئ الذي أنشئ في العام 1949 لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم في فلسطين التاريخية، ظروفا صعبة للغاية رغم وقوعه شرق البحر المتوسط.
وأشار عليان إلى أن والده كان يحدثه هو وإخوته عن قريتهم "هربيا" وكل تفاصيلها، بيارات البرتقال والليمون، وكروم العنب، وموسم الحصاد، و"بابور الميّه"، إضافة الى العلاقات الطيبة التي كانت تربط أبناء القرية في المناسبات السعيدة والحزينة.
"كنا نشعر بأننا في "هربيا" من التفاصيل الدقيقة التي رواها والدي رحمة الله لنا"، أضاف عليان، منوها الى أن والده حدثهم عن "الهجرة" والمجازر الدموية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية وآلام وقسوة التشريد.
والدة عبد الرؤوف ما زالت على قيد الحياة، فهي تحدث أحفاده أيضا عن "أيام البلاد"، رغم مرضها وتقدمها بالسن.
يقول عبد الرؤوف: أنا كذلك، أنقل ما سمعته وورثته من والديّ لأبنائي كي لا ينسوا ويتوارثونها جيلا بعد جيل"، داحضا بعد تسعة وستين عاما، مقولة غولدا مئير، التي هي ماتت ولم تمت فلسطين في عقول وقلوب أبنائها.
"هربيا" قرية فلسطينية كانت تتبع قضاء غزة قبل العام 1948، وتقع إلى شمال غزة على بعد 15 كيلومترا منها، تحيط بها أراضي قرى الخصاص والجورة وبربرة من الشمال، وأراضي بيت جرجا ودير سنيد من الشرق، وأراضي بيت لاهيا من الجنوب، وترتفع هربيا حوالي 25 مترا عن سطح البحر.
في أحد أزقة مخيم الشاطئ، كانت مجموعة من الأطفال تلهو بكرة القدم في ظل احتجاج من قبل الجيران وكبار السن، الذين كانوا يجلسون على أبواب بيوتهم جرّاء ارتفاع درجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي.
بدوره، قال الصيدلي كمال أبو دية (32 عاماً): أنا من بلدة الجورة جنوب فلسطين، وسنعود إليها يوما ما لأن حق العودة مقدس، مشيرا الى أن والده الذي عايش النكبة، رحل عن هذه الدنيا وهو طفل صغير، لكنه يعرف كل شيء عن "الجورة".
وأضاف: "أمي عايشت النكبة وهي على قيد الحياة، أخبرتني عن "الجورة" قبل "النكبة" وبعدها، مشيرا الى أن بلدته الأصلية تتبع قضاء غزة وتقع على ساحل البحر المتوسط.
وأكد أبو دية إلى أنه يحكي لأبنائه عن "الجورة"، حتى تبقى في أذهانهم ولا ينسوها في يوم من الأيام لأنها بلد الآباء والأجداد، لافتا الى المعاناة التي يمر بها سكان المخيمات من اكتظاظ سكاني وبطالة وانقطاع الكهرباء وغيرها الكثير.
جهاد (12 عاما) الابن البكر لكمال، يؤكد أنه لن ينسى بلاد الآباء والأجداد التي طردتهم منها العصابات الصهيونية، مشيرا الى أنه من بلدة "الجورة" التي طالما حدثته جدته عنها، وأنه سيعود اليها في يوم من الأيام.
ــ