بيتا.. صورة الانتفاضة الأولى
يامن نوباني
خلال كتابة هذا التقرير، يتهيأ سعد دويكات (19 عاما) لتحطيم القيد اليوم الأربعاء، والانطلاق نحو الحرية بعد ثلاث سنوات ونصف من الاعتقال، وهو أصغر أسير مضرب عن الطعام ويقبع في سجن نفحة الصحراوي، وفي المقابل يدخل الشاب علقم حمايل أول ساعاته في السجن بعد اعتقاله فجر اليوم الأربعاء.
في مشهد لم نألفه في السنوات الأخيرة، التقطت عدسات المصورين مشاهد مئات الشبان الثائرين نصفهم ملثم، إطارات سيارات مشتعلة، متاريس من حجارة وقطع حديدية، علم فلسطين في المقدمة، شعارات على الجدران، مقلاع يُلوح ليهبط الحجر بداخله على الجنود، فتية يجمعون الحجارة، صفير كلما أصاب حجر جنديا أو اشتعلت زجاجة حارقة في الشارع. إنها بلدة بيتا إلى الجنوب من نابلس، تعيد للشارع صور الانتفاضة الأولى.
في كل موقعة من تاريخ النضال الفلسطيني كان لهم شهداء، وفي كل السجون ينوب عنهم معتقل أو أكثر، بيوت نُسفت وأخرى أغلقت، شهداء سابقون يستقبلون شهداء جدد. قبل أيام أستشهد الشاب معتز تايه وسط بلدة حوارة، بعد أن أطلق مستوطن النار من مسدسه على متظاهرين يساندون إضراب الكرامة الذي يخوضه الأسرى في سجون الاحتلال، امتدادا لمن سبقوه من سيل شهداء البلدة الذين تجاوزوا الأربعين شهيدا.
منذ العام 1936 وحتى العام 1971، قدمت بلدة بيتا أكثر من 25 شهيدا، وكان نصيبها من الانتفاضة الأولى تسعة شهداء، وقدمت خلال انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية 2000) أربعة شهداء، إضافة إلى شهداء ارتقوا في السنوات الأخيرة.
وقدمت بيتا مئات الأسرى، ما زال 60 منهم خلف القضبان، صدرت بحق عدد منهم أحكام بالسجن المؤبد، كما دخل أربعة من أسراها في العام 2017 عامهم الرابع عشر خلف القضبان. ويخوض اليوم 35 من أسرى بيتا الإضراب المفتوح عن الطعام مع نحو 1700 أسير بدأوا معركة الأمعاء الخاوية بقيادة الأسير مروان البرغوثي في 17 نيسان الماضي.
في 6 نيسان 1988 صدحت مآذن مساجد بيتا، بنداءات لصدّ اقتحام مستوطنين للبلدة من الجهة الشرقية، التي تحوي عيون مياه وخربا أثرية. قبل الانتفاضة كانوا يأتون بحريتهم، فزعت عليهم البلد واستشهد شاب في بداية المواجهة وأصيب آخر، قبل أن يتمكن الأهالي من إحضار المستوطنين إلى وسط البلدة، وكانت الحصيلة النهائية للمواجهة مقتل مستوطِنة وإصابة 16 آخرين، بينما استشهد ثلاثة شبان وأصيب آخرون. هذه الرواية نقلها لـ"وفا" أحد الشبان الذين شهدوا الحادثة، وهو أسير محرر وأحد الذين نُسفت بيوتهم في تلك المرحلة.
ثلاثة عشر بيتا نُسفت وتضرر بفعل ذلك 20 بيتا، وأبعد ستة شبان في البداية إلى لبنان ثم الى تونس والجزائر، عاد منهم ثلاثة وبقي الآخرون في الخارج. الحاكم العسكري الإسرائيلي نقل مكان إقامته إلى البلدة لمدة شهر، وإسحق رابين وزير جيش الاحتلال آنذاك، جاء بسيارته إلى مكان المواجهة وسط البلدة وحين رأى الدماء على طول الشارع، أصدر قرارا بنسف البيوت على الفور.
اعتقل ما يقارب 400 شاب، وبعد التحقيق معهم تبقى منهم 25 بتهمة المشاركة في مهاجمة المستوطنين، وجرى تخريب كبير لأراضي البلدة، وخاصة شجر الزيتون.
وأضاف الراوي: كانت هناك لجان للسهر على البلدة، وهي ما تعرف بالقوة –المجموعات- الضاربة، وكانت الحارة الفوقا لبيتا هي قلعة المواجهات لارتفاعها وقدم بيوتها وإطلالتها على البلدة، وتعتبر البلدة القديمة لبيتا، ومن مسجدها القديم كانت تُتلى بيانات القيادة الموحدة للانتفاضة، وبيتا بقيت طيلة سنوات الانتفاضة الأولى وحتى بعد قيام السلطة الوطنية وحتى اليوم، موقعا ساخنا ومتقدما في المواجهة مع الاحتلال ومستوطنيه.
ومن أشهر ما تتميز به بيتا أو كما يطلقون عليها "أم المشاريق" في تاريخها النضالي، المحافظة على أراضيها، فلم يذهب من أراضيها شيء، لا بيعا ولا تسريبا، ويبلغ تعداد سكانها نحو 19 نسمة.
بلدة لا تهدأ، ولا يعنيها هدوء الأوضاع في المناطق الأخرى، فهي دائما منتفضة. حركة دائمة لآليات الاحتلال على مدخل البلدة، حواجز طيارة ومكعبات إسمنتية ترفع أو تُزاح في لحظات لتغلق مدخلها الرئيسي وشريان حياتها، لكنها كباقي البلدات الفلسطينية تخترع حلا لعقدتها، وتخلق من "تحت الأرض" طرقا تفك حصارها وتعلن عدم استسلامها ورضوخها.
تقول أغنية ثورية من زمن الانتفاضة الأولى:
قرية بيتا غالية علينا وأعطت الصهيوني دروس
قالت له لا تحلم بأرضي ولا تفكر عليها تدوس
خطفوا الحرس مع السلاح وخلّو العدو كلو جراح