النكسة و"التوجيهي" تفتحان أوجاع السبعيني أبو ناصرية
أعادت الذكرى السنوية الخمسين للنكسة، وانطلاق امتحان الثانوية العامة "التوجيهي"، فتح أوجاع السبعيني فايز صالح أبو ناصرية على مصراعيها، فهو الشاهد على احتلال نابلس وطوباس، الذي لا تسقط من ذاكرته التفاصيل القاسية لانقطاع امتحانه قبل الأخير، وضياع الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وشبه جزيرة سيناء.
ويسرد الراوي خلال الحلقة الـ70 من سلسلة "أصوات من طوباس" التي تنظمها وزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية، حالة الرعب التي عاشتها نابلس، ووضعت حدًا لسير الامتحان قبل الأخير لطلبة الثانوية العامة.
وقال وهو يتصفح كتاب تاريخ يسرد القضية الفلسطينية: كنا في مدرسة عمرو بن العاص، وقبل أن ننهي من كتابة الإجابات، سمعنا أصوانا خارج القاعة، وعلمنا من المراقبين أن الحرب وقعت، وحين غادرنا المدرسة شاهدنا الناس يتراكضون في كل الاتجاهات، ويبحث الآباء عن أبنائهم، فجمعنا طلبة طوباس (كنا ست طالبات وثمانية طلاب)، وبحثنا عن سيارة تنقلنا لمدينتنا، ووجدنا السائق زياد ضبابات، الذي وضعنا في السيارة كعلبة سردين، وتركنا نابلس في حالة صعبة.
شائعات وذعر
وأضاف: طوال الطريق كانت مشاهد الهلع واضحة، فقرب وادي الباذان تخلى كثير من الناس عن منازلهم، ونزلوا إلى الشوارع، وحين اقتربنا من طوباس رأينا بعض العائلات ترسل الطعام لجنود الجيش الأردني، وأول ما نزلنا من السيارة راجت شائعات عن هبوط جندي إسرائيلي بمظلة في سهل قريب، وبدأ متطوعون بتسليم أسلحتهم لغرفة الدفاع المدني، التي أقيمت في مقر البلدية.
ومما يختزنه أبو ناصرية، فإن دبابات الجيش العربي الأردني كانت متواجدة في منطقتي العقبة وأبو مليّح، فيما بدأت عمليات النزوح من القرى والبلدات المجاورة كعقابا والزبابدة وقباطية إلى طوباس، وفي وقت واصل فيه مواطنون السير نحو الشرق، قاصدين عبور نهر الأردن، ولجأ البعض إلى الكهوف.
قلب مشطور
وتابع: حين وصلت البيت من نابلس قبل الظهر، انقسمت عائلتنا إلى ثلاث مجموعات، فغادر أخي عبد بالسيارة، وسرت أنا وأمي وأبي وأختي مشيًا على الطريق الرئيس الواصل إلى الغور، وأخذ أخي رفيق الباقين. وخلال مسيرنا شاهدنا الطائرات وهي تقصف الدبابات الأردنية، ورأينا مركبات محترقة وجثثًا، لا زلت أنذكر إحداها، وهي تغرق بالدم والأمعاء تخرج من مكانها، أما قلب أمي فكان موزعًا على أخوتي البعدين عنا.
ووفق أبو ناصرية، الذي ولد في طوباس في شهر آب 1946، فإن عائلته واصلت المسير نحو جسر دامية، ووصلت مع مغيب الشمس إليها، وأقامت في بيت كانت تقيم فيه سيدة طاعنة في السن، قدمت لهم الخبز، ورحبت بهم، إلى أن أمضوا الليل، وعبروا قاصدين مدينة السلط، وبعدها انتظرهم العم أبو عوني، وانتقلوا إلى الزرقاء، وأمضوا فيها ثمانية أيام إلى أن عادوا إلى طوباس، واجتازوا مخاضة أبو السوس (أحد المعابر الرئيسة بين الضفتين) في نهر الأردن، ووصلوا بيتهم، ووجدوه منهوباً.
نزوح وتدريب
التقطت عين الراوي قبل 50 عاما، مشاهد تحوّل الكثير من المدارس والمساجد في الأردن إلى مراكز لإيواء النازحين، في وقات بدأت الكثير من العائلات بتقديم الطعام لهم، فيما راح مقيمون في المملكة يبحثون عن أبناء عائلاتهم.
يعود أبو ناصرية إلى حكاية المدرسة و"التوجيهي"، فقد كان الجيش الأردني يجري تمرينات لطلبة الثانوية العامة على الرماية، ويمنحهم تدريبات في الإدارة والصحة والإسعاف الأولى، وينقلهم إلى منطقة (المخروق) في الأغوار، فيما سبقت النكسة بسنوات تظاهرات تطالب بالوحدة مع مصر وسوريا، وتهتف بحياة الرئيس جمال عبد الناصر.
وقال أبو ناصرية: تقدمنا قبل النكسة لامتحانات غالبية المواد، وحرمنا من تأدية آخر امتحانين (التاريخ العام والفلسفة للفرع الأدبي)، و( الرياضيات والفيزياء للعلمي)، وحرمتنا ظروف الاحتلال من الفرح، فقد كان الأهل عادة يقيمون الاحتفالات والسمر ( التعليلة) ثلاثة أيام للناجحين، وكانت المعدلات متدنية.
وختم: لا أنسى معلّم اللغة العربية أحمد كنعان، في مدرسة النجاح الوطنية، الذي علّمنا الضاد بطريقة لافتة، فكان يمنح كل واحد منا لقب شاعر أو أديب، فكان معنا في الغرفة: أحمد شوقي، وبشار بن برد، وأبو تمام، وإبراهيم طوقان، وغيرهم، ويطلب منه أن يقدم سيرة حياته لزملائه بأسلوبه، وينقل الأشعار الأبرز له، ويدعنا نشارك في تقديم الحصة، وفي نهايتها يعطينا التوجيهات، ويشجعنا، وكان مهتمًا جدًا ببحور الشعر، ويحفظ الكثير من القصائد.
توثيق وذاكرة
بدوره، أشار منسق وزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية عبد الباسط خلف، إلى أن الوزارة توثق منذ خمس سنوات، مفاصل مهمة من النكبة والنكسة، ولم تكتف بسرد لحظات الاقتلاع والتهجير والنزوح، بل أعادت بناء القرى والمدن المدمرة، وسلّطت الضوء على أشكال الحياة الاجتماعية والاقتصادية في إطار برنامج (ذاكرة لا تصدأ)، مثلما قدمت تجارب أول الشهداء بعد حزيران 1967 ضمن سلسلة "كواكب لا تغيب")، وتتبعت الأحداث المهمة التي رافقت النكسة خلال حلقات "أصوات من طوباس".
ــ