شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات    مجزرة جديدة: عشرات الشهداء والجرحى في قصف للاحتلال على مشروع بيت لاهيا    3 شهداء بينهم لاعب رياضي في قصف الاحتلال حي الشجاعية وشمال القطاع    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على حي الصبرة جنوب مدينة غزة    لازريني: مجاعة محتملة شمال غزة وإسرائيل تستخدم الجوع كسلاح    شهيدان جراء قصف الاحتلال موقعا في قرية الشهداء جنوب جنين    الاحتلال يواصل عدوانه على بلدة قباطية جنوب جنين    شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي استهدف منازل ومرافق في النصيرات وخان يونس    إسرائيل تبلغ الأمم المتحدة رسميا بقطع العلاقات مع الأونروا  

إسرائيل تبلغ الأمم المتحدة رسميا بقطع العلاقات مع الأونروا

الآن

حكم عبد الهادي.. ستون عاما في المنفى ومع فلسطين

يامن نوباني

في العام الماضي ذهب إلى جزيرة كريتا، وكتب من هناك: جزيرة كريتا، حيث نحن الآن، جميلة وفلسطين دون احتلال لا تقل جمالا. هكذا كنت سأقضي نهاري لو لم يكن الاحتلال البغيض: قهوة الصباح في القدس وجولة في أزقة البلدة القديمة. الساعة العاشرة سأسافر في سرفيس الى شواطئ غزة وأسبح واتشمس حتى الظهيرة وأتناول صحنا شهيا من السمك، وفي المساء أعود الى رام الله وأشرب القهوة مع وليد نصار. وفي الشتاء سنتعشى خالد حوراني وأنا في أريحا. بلادنا لو لم نُبلَ بالاحتلال جميلة.

الإعلامي حكم عبد الهادي، المولود بالعام 1939 في مدينة جنين، أنهى دراسته الثانوية في مدارسها قبل أن تحط به الأقدار في ألمانيا منذ العام 1958 إلى اليوم، كتب مقالات كثيرة في عدد من الصحف العربية والألمانية وساهم باستمرار في ندوات تلفزيونية وإذاعية معظمها بالألمانية.

يتذكر من طفولته: كنا عائلة تتكون من 12 شخصا. كانت أوضاعنا المالية على قد الحال، أحيانا كنت أذهب جائعا للمدرسة في الصباح وأعود اليها بع الظهر جائعا. الغريب أنني لا أشعر بالحزن، بل ولأنني كنت أعيش مع إخوتي وأصدقائي، كنت أحس كأنني في نادي كرة قدم.

ويقول: كنت سعيدا حين غادرت جنين في مطلع شبابي بحثا عن مستقبل، وعندما تركتها خاصة بعد سنوات، اشتاق إليها وأتذكر أشياء لم تعد موجودة للأسف: نبع "عين نينة"، بساتين تحولت إلى بيوت.

جنين تظل جميلة في المخيلة وعلى أرض الواقع، عدت إلى جنين أول مرة في العام 1962. سعدت بالأهل والذكريات، تكررت الزيارات طبعا وكل مرة أزور فيها فلسطين لا بد أن أقضي عدة أيام في جنين. عادة أزور فلسطين مرة أو مرتين في العام. فلسطين وجنين قطعة واحدة في القلب والعقل. طالما أن فلسطين غير مستقلة لن ينتزعها أحد من رأسي وقلبي، فهذا أشعر أنه سيكون من أنواع الخيانة. بعد الاستقلال لا أدري. هذا الشعور يذكرني بالأب الذي لا يتخلى عن أولاده قبل أن يصبحوا رجالا، لا تستطيع أن تتخيل كيف كان شعوري حين زرت بعد العام 1967 حيفا وصفد. الاحتلال يقتل شيئا في الإنسان، والمقاومة - كما نرى اليوم في القدس- هي التي تعيده للحياة.

طيلة فترة غيابه عن فلسطين، بقي يكتب عنها، ويتذكرها، ينتظر القادمين منها، يحملون معهم هداياهم البسيطة، الهدايا العظيمة بنظر من ينتظرونها، يكتب عبد الهادي قبل عام على حسابه الشخصي على فيسبوك: زرعنا منذ دقائق كوسا بلديا وخيارا وخبيزة وهندبة من أراضي فلسطين المباركة، كانت هدية جميلة من الصديق علاء جمعة. ويكتب في حادثة أخرى: بعد قليل سيصل صديقي النابلسي بيتنا لنتناول طعام الفطور معا، سأسعد بزيارته. خطر ببالي أن أهل نابلس يتكلمون بلهجة محببة للقلب وكأنهم يأكلون الكلمات ويمضغونها، فعندما تسمع قصة منهم يخيل لك أنك تناولت أكلة شهية.

حول بداياته في المنفى يقول عبد الهادي: عملت في عدد من المصانع الألمانية وكنت أتلقى دعما متقطعا من أخي في الكويت. درست فيما بعد الاقتصاد في جامعة هامبورغ. بعد تخرجي بشهادة الماجستير تعلمت مهنة الصحافة الإذاعية والتلفزيونية في إذاعة صوت ألمانيا (دويتشي فيلي) وإذاعة غرب ألمانيا، وعملت حوالي 20 عاما في إذاعة صوت ألمانيا. ثم بعد تقاعدي المبكر عملت مع حزب الخضر وزملاء آخرين، منهم الدكتور نبيل الخطيب وعارف حجاوي في بناء إذاعة في جامعة بيرزيت وفي تأهيل إذاعيين في فلسطين.

ويضيف: عملت قبل الصحافة كباحث في معهد "جمعية العلماء الألمان" وساهمت كاقتصادي مع أطباء في إعداد دراسة عن النظام الصحي في ألمانيا، وساهمت في إصدار مقالات نشرت في كتب عن هذا الموضوع. ثم في إطار عملي في بيرزيت أصدرت كتابا يدرّس في قسم الإعلام. عنوانه: القصة الإذاعية. أصدرت كتابا بالألمانية عنوانه: "سليمان الجائع - عن الضحك والبكاء في فلسطين"، الكتاب يروي قصة عائلتنا وهي ككل العائلات الفلسطينية جزء من القضية الفلسطينية وتاريخها. أبي بطل القصة، كان شاعرا ومعتقلا.

وفي يومياته يتذكر "ملك الزهور" أحد شخصيات جنين، ويقول فيها: ملك الزهور، هكذا كنا نسميه في مسقط رأسي جنين، ما أعرفه أنه لم يكن عاقلا ولم يكن مجنونا. ربما يُقال عنه إنه كان مجنونا محترما وربما حكيما. العلماء يقولون إن الجنون بكل بساطة هو حالة لا يتصرف فيها الشخص كما يتصرف العامة، أي أنه يخرج عن خط الوسط الذي لا خلاف عليه اجتماعيا. من لقبه وتتويجه ملكا على الزهور، نلاحظ أنه كان يرسل رسائل تشرح الصدر كالزهور. كان كالطيف المحبوب ولم أسمع أنه أساء لأحد وإذا غضب فكان يشتم أشياء لا نتعامل معها في حياتنا، كان يشتم – كما أذكر- الكون أو بلدة ما أو الأرض التي أطلعت فلان. كان ينتظره الناس ليستمعوا لقصصه الغريبة وخيالاته غير المألوفة. أتخيل أن شيئا جميلا مات في جنين عندما مات هذا الرجل. ملك الزهور يبقى في ذاكرتي كأحد أغنيات ومواويل جنين.

وعن نظرة الإعلام الألماني إلى القضية الفلسطينية، قال عبد الهادي: الإعلام يتعامل مع القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى من خلال التاريخ الألماني وإشكالية الهولوكوست، وهنا يتم الخلط بين مشاكل ألمانيا والألمان ومشكلتنا كفلسطينيين مع الاحتلال. النقاش مع الألمان ليس سهلا، ولكن مع الوقت وأمام صلف وتوسع إسرائيل، أصبح هناك تفهم أكبر للقضية الفلسطينية على مبدأ: نحب إسرائيل ونكره توسعها. هذا طبعا باختصار شديد.

ويكتب عن اتجاه الإعلام الألماني للمناصرين للقضية الفلسطينية، فيقول: الإعلام الألماني تناول رحيل نويديك بعشرات المقالات والبرامج التلفزيونية والإذاعية، ولكنه للأسف لم يتعرض بشكل يذكر للجهود التي بذلها هذا الرجل في مضمار التضامن مع الشعب الفلسطيني المنكوب. ونشير في هذا السياق إلى أنه قدم العديد من الخدمات بما في ذلك دعم تصدي الفلسطينيين لبناء المستوطنات. وفي هذا الإطار قدم لمزارعين فلسطينيين أجهزة لاستغلال الطاقة الشمسية. كما نشر كتابا عنوانه "لا استطيع أن أصمت" تناول فيه الوضع المأسوي في الخليل وغيرها من المدن في الضفة الغربية وفي هذا الكتاب ،الذي لم يلق اهتمام الإعلام الألماني، هاجم السياسيين الألمان بسبب جبنهم وخوفهم من انتقاد إسرائيل فيما يتعلق بسياستها الاستيطانية وممارساتها اليومية ضد الشعب الفلسطيني.

ويكتب في أحد منشوراته: عندما دعيت لأول مرة إلى ندوة "فيرنر هوفر" التلفزيونية، التي كانت تسمى فري شوبن (أي ما معناه كأس الصباح) والتي كانت تبث دائما يوم الأحد الساعة الثانية عشر ظهرا ويشاهدها ملايين الألمان أثناء وجبة الغذاء أو في الحانة أثناء كأس الصباح، أذكر أنني لم أنم ليلتين قبل أن أشارك في ذلك الحوار مع خمسة صحفيين من خمس دول أحدهم إسرائيلي. زوجتي الألمانية آنذاك قالت لي: كفاك تحضيرا وقراءة فأنت دون هذه الدعوة مشغول ليل نهار بفلسطين التي كانت تمقتها. كنت أعتقد أنه لا يجوز لغيري أن يعلم معلومة عن بلادي مهما كانت تافهة ولا أعرفها، وكنت أتخيل نفسي سفير الجالية الفلسطينية في عالم الإعلام الألماني.

بعبارة أخرى: كنت حاملا للسلم بالعرض وفوقه قسطا ضخما من الشعور بالمسؤولية.

كان ذلك في نهاية السبعينيات وفي مرحلة مؤلمة وما زلت أشعر بأوجاعها حتى يومنا هذا. لم يقدمني الصحفي الألماني الكهل هوفر كفلسطيني وإنما كصحفي أردني. كانت أول معركة لي تتطلب أن أؤكد أنني من أبناء فلسطين، لأن إسرائيل كانت تنفي وجودنا وكان ذلك يحتاج جهدا ووقتا كنت بحاجة له أثناء نقاش القضايا الأخرى المعقدة. ومن ناحية أخرى كان الفلسطيني آنذاك في وسائل الإعلام الألمانية إرهابيا، وأذكر على سبيل المثال أن صحفيا من برلين كتب بالحرف الواحد أن الإرهاب هوية الفلسطيني وثقافته. أمام هذا الوضع اخترت طريقا أثار غضب بعض أبناء الجالية الفلسطينية. لم أكن هجوميا وعصبيا وإنما في غاية الهدوء نظرا للأحكام المسبقة عن العرب المتهمين بالعاطفية إلى حد الجنون. كنت أود أن أقول للألمان: نحن ناس عاديون لدينا أيدي وأرجل ونقابيون ومعلمون وأطفال يتعلمون راس روس في المدارس، وأن لهم أمهات وآباء يخافون عليهم من رصاص الاحتلال. كنت أسعى إلى نقل الألماني الذي يتناول طعام الغذاء في بيته المريح إلى المخيمات في لبنان وسوريا وإلى نصف هذا الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال، وكنت أناضل أثناء ذلك ألا تختفي الابتسامة عن وجهي.

كانت أوضاع الفلسطينيين قاسية وما زالت، والآن تحسن موقف الرأي العام الأوروبي فقد اكتشف العالم ولو ببطء ودون مبادرات سلام حقيقية أن إسرائيل لا تنشد السلام وإنما السيطرة الكاملة والدائمة على كل فلسطين والجولان.

وعن قامات فلسطينية في ألمانيا، قال عبد الهادي: هناك المرحوم برهان كركوتلي، كان رساما مبدعا توفي قبل أكثر من عشرة أعوام، كان دمشقيا يقدم نفسه كفلسطيني تضامنا مع الفلسطينيين وقضيتهم. قدم الكثير في ميدان الفن.

حاليا أكن كل الاحترام لسيدة أسمها ثريا هوفمان أسست مقهى فلسطين كولونيا، وهو ملتقى ثقافي للعرب والفلسطينيين بصورة خاصة والألمان. قدمت هذه السيدة الحيفاوية الأصل الكثير على مستوى الإعلام والدعم للناس في غزة وإلى غير ذلك. أيضا الدكتور نبيل بشناق أسّس منظمة ابن رشد التنويرية التي قدمت الكثير لفلسطين والعرب.

ويختم عبد الهادي بالقول: مضى على إقامتي في ألمانيا حوالي الستين عاما، أي أكثر بكثير من الأربعين يوما لأصير منهم، ولكن هل صرت حقيقة منهم؟ الجواب نعم ولا. منهم لأنني أعرف لغتهم وتاريخهم (إلى حد لا بأس به) وعاداتهم وتقاليدهم، ولكن اسمي يكفي ليشعروني أني لست منهم. الاندماج الكامل كرقصة التانجو التي لا تستطيع أن ترقصها وحدك. بيد أنني لا أريد أن أصير من أحد، فأنا كغيري فريد وحداني، لي سحنتي، التي تزعجني أحيانا، وعائلتي العربية التي أحبها وثقافتي الإسلامية- العربية- العالمية، ومسقط رأسي جنين التي أعشقها ووطني العربي- الفلسطيني.

أشتاق لبلدي حين أغيب عنه، وأشتاق لألمانيا قبل أن أعود اليها.

كل ذلك تنساه حين تلتقي بالناس، بأولاد البلد، وتزور جامعة الأزهر وكنسية القيامة، وعندما تأكل أول صحن حمص.

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024