تقوع.. المواجهة الشرسة
يامن نوباني
يعتبر مدخل بلدة تقوع (12كم جنوب بيت لحم) من أجمل المشاهد الطبيعية في فلسطين، فالبلدة تبدأ بلوحة فنية من الزيتون الكثيف، والمتراص، هذا الزيتون تولدت لديه مهمة أخرى غير الزيت، والرصيع، والجفت، والحطب، فأصبح قاعدة انطلاق راشقي الحجارة.
خلال المواجهات التي لا تتوقف مع الاحتلال، يخرج أطفال وشبان من تلك اللوحة، يرمون الجنود والجيبات العسكرية بالحجارة، فالجنود وحدهم الزائد فيها، والمشوه للمشهد الجميل الذي تحياه البلدة منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
في نيسان الماضي، بثت مواقع التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار مقطع شريط مصوّر يظهر ثمانية من جنود الاحتلال يحملون أسلحة تكفي لحصار البلدة أياما، وهم يختبئون قرب جدران أحد منازل تقوع، هربا من حجارة الشبان الذين انتفضوا في وجوه الجنود غير آبهين بطلقات الرصاص الحي، وقنابل الغاز المسيل للدموع، هرب الجنود من مطر الحجارة مخلفين ورائهم بضعا من عتادهم، وسط صفير وتكبير الشبان، وفي طريق الانسحاب سقط جندي على الأرض في مشهد يؤكد مهزلة وجبن وضعف جيش الاحتلال.
في الأشهر الأخيرة، أستشهد ثلاثة شبان على أرض تقوع، أولهم الفتى قصي العمور، الذي أصابه الجنود بثلاث رصاصات ثم قاموا بسحب جثته على الشارع لمسافة طويلة دون مراعاة لإصابته الحرجة ونزيفه من كل مكان في الجسد.
وفي العاشر من تموز الجاري، أستشهد الشاب محمد جبرين، بعد أن أمطره جنود الاحتلال على مدخل البلدة بالرصاص، بتهمة قيامه بعملية دهس أسفرت عن اصابة جندي، وفي 20 تموز الجاري، أستشهد محمد تنوح، حيث تمت تصفيته بدم بارد أثناء مروره بالقرب من جيب عسكري احتلالي، بحجة محاولته تنفيذ عملية طعن.
عدا عن الشهداء، لم تتوقف تقوع عن تقديم الجرحى والأسرى بشكل مستمر، ولم يتوقف فيها الأطفال عن إغلاق الشوارع بالحجارة والمتاريس، استعداد للمواجهة التي باتت شبه يومية، ويتجاوز اليوم عدد أسرى تقوع الخمسين أسيرا، فيما بلغ عدد الإصابات منذ بداية العام أكثر من 30 إصابة بالرصاص بكافة أنواعه.
كما أن تقوع أعادت للثام والملثم هيبته ودوره، ففي بيوت العزاء التي افتتحت للشهداء وخاصة الشهيد قصي، يدخل عدد من الشبان الملثمين يقبلون أيادي ذوي الشهداء، في مشهد يعيدنا إلى يوميات الانتفاضة الأولى.
أحدى عشر شهيدا قدمتهم تقوع خلال تاريخها النضالي، وهم: الشهيد سليم الشاعر 2-4-1988، والشهيد سامي الصباح 21-8-1989، والشهيد سليم صبيح 11-8-1993، والشهيد خالد الزير 26-11-1993، والشهيد وليد البدن 2002، والشهيد جهاد الشاعر 26-7-2007، والشهيد حسن حميد 2008، والشهيد عمر حميد 17-11-2012، والشهيد قصي العمور 17-1-2017، والشهيد محمد جبرين 10-7-2017، والشهيد محمد تنوح 20-7-2017.
رئيس بلدية تقوع في مرحلة سابقة، سليمان أبو مفرح قال لـ"وفا": منذ منتصف السبعينات إلى اليوم وتقوع حاضرة في كل المناسبات، تراكمت عليها حالة التعبئة والتوعية، فباتت تربية وثقافة يومية فتراكمت العملية منذ بداية الثمانينات وقبل ذلك، النشاط الاجتماعي، تراكم في حالة التعبئة والتوعية بالسلوك والمؤسسات والاطر التنظيمية المختلفة وخاصة حركة الشبيبة الطلابية الذراع الطلابي لحركة فتح. كانت تديرها الاطر الاجتماعية او الجمعيات الخيرية فكان أول مجلس قروي عندنا في سنة 1997، ونحن بلدة متفاهمة بين عائلاتها منذ زمن طويل والنسيج الاجتماعي والوطني لدينا قوي.
وأضاف أبو مفرح أن المشكلة الأساسية هي وجود الاستيطان والاستيلاء المتواصل على أراضي البلدة وخنقها بالتكتلات الاستيطانية والشوارع الالتفافية، ووجود مدارسها على الشارع الرئيسي، ما صاعد المواجهة بين الطلبة وقوات الاحتلال والمستوطنين.
ويتابع أبو مفرح الذي اعتقل في العام 1983: في يوم من ايام الأرض في الانتفاضة الأولى حاصر الاحتلال تقوع بقوات كبيرة منذ الساعة الثامنة صباحا وحتى ساعات العصر، ولم يتمكن من دخول البلدة إلا بعد استجلاب طائرات عمودية شاركت قواته البرية في اقتحام القرية مما خلف اعدادا كبيرة من الجرحى والأسرى.
وقال: تربيت وأبناء جيلي تربية وثقافة تجاه الاحتلال، وتقريبا اعتقل معظم كوادر البلدة، فتراكم علينا حالة التعبئة، والتوعية، فأصبحت تربية يومية لأولادنا على مجابهة الاحتلال.
المعلم مراد أبو مفرح، رأى أن أهم أسباب التكثيف الاستيطاني على البلدة هو وقوعها على ثاني اكبر حوض جوفي مائي في الضفة الغربية، مما دفع الاحتلال بإحاطتها بثلاث مستوطنات وهي: تقوع ونوكديم ومعالي عاموس، وفي تقوع سبع آبار ارتوازية، يسيطر على معظمها لتغذية مستوطناته في بيت لحم والخليل.
وحول التدرج النضالي لأهالي تقوع، قال أبو مفرح: منذ السبعينات والاحتلال ومستوطنوه كان لهم سجل طويل في الاعتداءات والاطماع في أراضي أهل البلدة، كان لأهالي البلدة مواقف مشرفة في التصدي لهم ومنعهم من الاستيلاء عليها، انخرط أغلب رجالها في صفوف فدائيين حركة فتح في بداية السبعينات، وفي بداية الثمانينات دخلت رسمياً حركة فتح لبلدة تقوع وانخرط معظم شباب البلدة في صفوفها، وفي بداية الانتفاضة الاولى كانت تقوع رأس حربة في مجابهة ومقاومة الاحتلال وخوض الاضرابات التجارية والمواجهات وكافة الأنشطة المتعلقة بالمقاومة.
وأضاف: انتهت الانتفاضة الأولى دون أن تنتهي في تقوع، الشارع الالتفافي الذي يمر من البلدة بطول 5 كم، والذي يسلكه المستوطنون، جعل منها نقطة ساخنة مع المحتل ومستوطنيه، وفي حادثة لا تُنسى خلال الانتفاضة الأولى حاصر شبان تقوع دوريتين للاحتلال ولم يستطع الاحتلال تخليص جنوده من حصار الشبان إلا بعد أن استقدم طائرة عمودية لمواجهة وملاحقة الشبان المنتفضين.
في الجزء الجنوبي من البلدة هناك خربة اثرية تعود للعصر الروماني، وفي بداية التسعينات بدأ الاحتلال بنبش هذه الخربة، للاستيلاء على هذه الاثار وتزويرها واستغلالها لمصالحهم، اهالي البلدة رفضوا هذه الاجراءات واستمرت المواجهات مع المحتل بهذا الخصوص حتى نهاية عام 1995، وفي أحداث النفق عام 1996 كانت تقوع اول من لبي نداء الوطن، وقدمت خلالها الاسرى والجرحى، وكان سليم الشاعر من تقوع أول شهداء محافظة بيت لحم في الانتفاضة الأولى.
والتحق العديد من أبناء البلدة في صفوف كتائب شهداء الاقصى الجناح العسكري لحركة فتح، وكان أبرزهم رياض العمور، الذي يقبع اليوم في سجون الاحتلال ومحكوم بالمؤبد 11 مرة لدوره النضالي الكبير في الاشتباك مع الاحتلال، والأسير محمد البدن المحكوم مؤبدا و15 عاما، والعديد من الأسرى المحكومين بأحكام عالية، وأفرج مؤخرا عن الأسير خالد العروج بعد 14 عاما من الاعتقال، وتقوع تعتبر يوم 11/11 (ذكرى استشهاد ياسر عرفات) من كل عام مناسبة وطنية كبيرة ويوم غضب تعطل فيه المدارس ويخرج الطلاب إلى المواجهات، ويعتبر يوم استشهاد قصي العمور من أشد المواجهات حيث انتقم الاحتلال يومها لأحد جيباته الذي تم رشقه ودهنه بالكامل بالدهان (البوية) من قبل الشبان في ميدان خليل الوزير بالبلدة.
ومن أبرز الأحداث التي شهدتها تقوع، محاصرة شبانها لعدد من جنود الاحتلال وجيباتهم العسكرية في عام 2002 في مدخل البلدة، مما اضطرهم إلى اقتحام أحد محال الأجهزة الكهربائية واعتقال الشاب سليم أبو مفرح (46 عاما) وإجباره تحت الضرب والتهديد بالصعود على مقدمة الجيب العسكري، لكن طلبهم قوبل بالرفض والعناد مما دفع ضابط في الجيش إلى وضع سلاحه على رأس أبو مفرح واطلاق رصاص قربه في محاولة لتخويفه، لكنه وبحسب أقواله لـ"وفا" رفض الصعود مما دفع الجنود إلى تقييده على الأرض وضربه وتكبيله ووضعه على زجاج الجيب المزود بحماية بواسطة شبك، وبعد ذلك قام الجيب بالتقدم أمام الجيبات الأخرى تمهيدا لانسحابها، لكن الشبان انتبهوا لوجود أبو مفرح على مقدمة الجيب الأول وانهالوا على الجيبات الأخرى بالحجارة، ليتم بعد الخروج من البلدة تحرير أبو مفرح بعد تعرضه لجروح وكدمات وتمزق في الملابس، ولاحقا يتم اعتقاله لمدة 10أشهر.
فجر اليوم اعتقل الاحتلال الفتى عدي العمور، والفتى موسى العمور، وفجر أمس اعتقل الفتى حسين العمور، وقبل ليلتين اعتقلت محمود العروج، فالمعركة بين فتية تقوع والاحتلال مستمرة.
يبلغ عدد سكان تقوع نحو 13 ألف نسمة، وتحوي العديد من الآثار التاريخية لحضارات عدة كانت قد سكنتها من رومانية ويونانية ومملوكية يحاول الاحتلال بين فينة وأخرى السيطرة عليها، كما تشتهر بسهل تقوع وبرية تقوع والممتدة حتى البحر الميت.
_