البيان الختامي لــ"مؤتمر القاهرة لاغاثة غزة" يندد باستمرار إسرائيل في تقييد النفاذ الإنساني للقطاع    سيناتور أميركي: حكومة نتنياهو ترتكب جرائم حرب وتطهير عرقي في قطاع غزة    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال أنحاء متفرقة من قطاع غزة    شهداء ومصابون في تجدد الغارات الإسرائيلية على لبنان    الاحتلال يشدد من إجراءاته العسكرية شمال القدس    تحقيق لـ"هآرتس": ربع الأسرى أصيبوا بمرض الجرب مؤخرا    الاحتلال يشدد إجراءاته العسكرية على حاجز تياسير شرق طوباس    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال لمنزل في رفح جنوب قطاع غزة    الاحتلال يواصل اقتحام المغير شرق رام الله لليوم الثاني    جلسة لمجلس الأمن اليوم حول القضية الفلسطينية    شهيدان أحدهما طفل برصاص الاحتلال في بلدة يعبد    مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية  

الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية

الآن

الدهيشة.. الثقافة ردّ على النكبة

يامن نوباني

في أقدم صورة حصلنا عليها، يظهر مخيم الدهيشة في بدايات خمسينيات القرن الماضي، مجموعة خيام صغرة وأخرى كبيرة متجاورة، وأكواما من الحجارة الصغيرة وأشياء أخرى غير واضحة، ربما كان منها "كرفان" لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، فوق أرض منبسطة، تخلو من الخضرة أو المياه أو أية مقومات ضرورية ليستقر الإنسان فيها.

في صورة أكثر حداثة، وربما تعود لمنتصف الستينيات، يظهر المخيم، كحارة ريفية بدائية، الخيام أصبحت بيوتا، وهنا البيت يعني غرفة واحدة، سقفها من الصفيح المثبت بالحجارة والخشب والهياكل الحديدية! ومنافع خارجية مشتركة، فالحمام يُبني من الطوب وفي حال لم يتوفر له باب، يصبح البرميل بابه.

بين تلك الخيام وقبلها اللا خيام، والبيوت من غرفة، والغرف التي توسعت قليلا لتصبح بيوتا من غرفتين، كبر المخيم، وكبر الأولاد الذين أصبحوا اليوم يكتبون الأدب، بعد أن ترنخوا قراءة وعلما.

اليوم، وبعد 69 عاما من النكبة، وسط تلك الأزقة الضيقة تروح وتجيء كتب وأقلام وجرائد ومجلات أدبية وكاميرات تلفزيونية، ندوات أدبية ومراكز ثقافية واجتماعية، حالة من النشاط الثقافي الفاعل في مكان يضيق بكل شيء إلا الكتابة والقراءة والتعلم والإبداع.

برز في الدهيشة، الذي يصل عدد سكانه إلى 16 ألف نسمة، عدد من الأسماء الفكرية والأدبية والصحفية والثقافية والإبداعية اللامعة، والتي أضاءت عتمة المخيم، بعد أن افترشت التراب وتعلمت أول الحروف والجمل.

كيف أصبح مخيم الدهيشة واجهة ثقافية على مستوى فلسطين؟ يروي بعض مبدعيه تجاربهم الشخصية مع حياة المخيم، وكيف خلعوا أعمدة الخيام وانطلقوا بعلمهم وإبداعهم وثقافتهم، موقنين أن العلم وحده كان السبيل الوحيد إلى الوصول لأحلامهم وتعويض ما فاتهم من القهر والتهجير والضياع، فهم خرجوا من زكريا التي يهتم أهلها منذ ما قبل النكبة بالعلم والثقافة، وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، برزت تيارات سياسية كان لها دور حيوي في تفعيل العمل الثقافي، كما كان لتجربة السجون دورها في صياغة العمق والبعد الثقافي لشبان الدهيشة.

الكاتب والصحفي أسامة العيسة، المولود في مخيم الدهيشة في العام 1964، قال لـ"وفا": عندما استقر الحال نسبيًا، بمجموعة من اللاجئين من جبلي القدس والخليل، بعد محطات لجوء عديدة، في مخيم الدهيشة عامي 1949-1950م، أوَّل ما فكروا فيه، وهم في الخيام، تشييد مدرسة، في مبادرة جماعية أهلية رائدة وشجاعة، لم يتوقف عندها الباحثون، حيث تم تجميع الأطفال في العراء ولاحقًا في غرفٍ صفية من الخيام، وأصبح مديرًا للمدرسة الشاعر خليل زقطان ابن قرية زكريا المهجرة، التي شكّل أبناؤها المهجرين أكبر كتلة سكانية في المخيم.

وانضم لهيئة التدريس تطوعًا، العديد من المدرسين، الذين أنهوا الصفوف الابتدائية في قراهم قبل النكبة، وعملوا تحت قيادة زقطان المحبوب، والذي سيصبح بعد حين شاعرًا معروفا عندما أصدر ديوانه الأول "صوت الجياع" عام 1953 عن مطبعة دار الأيتام الإسلامية في القدس، وأثّر في كثير من الذين سيصبحون شعراء معروفين في المستقبل مثل الشاعر عز الدين المناصرة، الذي أشار في مقابلة معه في ثمانينيات القرن العشرين، بتأثير زقطان الشعري على جيله.

ينتمي زقطان لجيل من الشعراء ربطوا القول الشعري بالفعل الوطني، ما عرضّه للاعتقال عدة مرات، مثلما حال شعراء آخرين من قريته زكريا، تشردوا في مخيم الدهيشة والمخيمات المجاورة كمخيم العروب، مثل الشاعر فتحي الكواملة الذي أصدر ديوانين من الشعر، الأول "يا رسول السلام"، وهو مدح للرسول العربي، والثاني بعنوان "البركان"، وكذلك الشاعر عبد الفتاح الكواملة، الذي اتهم الأنظمة العربية بالتآمر على القضية الفلسطينية، وانتهى منتحرًا، عندما أطلق الرصاص على نفسه عام 1987 في مدينة إربد الأردنية.

ما ورد في الأسطر السابقة، يشير إلى مناخات الثقافة في مخيم الدهيشة منذ تأسيسه، حيث أصبح "عشا" لتفريخ نشطاء الأحزاب القومية واليسارية، وأبرزها الحزب الشيوعي، وحزب البعث.

ومن بين نشطاء الحزب الشيوعي في المخيم مختار قرية ذِكرين، الذي سيصبح ابنه رشاد أبو شاور كاتبًا معروفًا، وسيتذكر لاحقًا طفولته في المخيم، وتأثير معلمي المدرسة عليه: "كرجت قدماي علي الصخور المستلقية البيضاء التي تبدو كفقمات مبحرة لفرط حياتها، حاملةً على متونها الحراذين، والجنادب، والفراش، وطيور الحجل، والحباحب، مكحلّة الأطراف بعشب زغبي.

في الدهيشة تعلّمت أول الكلام، ونشيد "موطني"، وكتبت أوّل الحروف، وبللت بفمي سنّ قلم الكوبياء ليكون خطّي أعرض وأوضح، فمن هناك بدأت رحلتي مع الوضوح.

الأساتذة: نمر (العطابي)، ومحمود الخطيب، وأحمد العجّوري، وسليمان مزهر، وابن عمّه أحمد مزهر، والأستاذ الياس الذي كان في الشتاء والصيف يركض من بيت لحم إلى الدهيشة، ومنه تعلّمنا أن نركض بلا توقّف في هذه الحياة".

ومن مجايلي أبو شاور، الذي انتقل لاحقًا مع عائلته إلى مخيم النويعمة في أريحا، عبد الرحمن عبّاد، الذي أصدر في سبعينيات القرن الماضي مجموعته القصصية الأولى: "جمع الشمل"، وتوالت دراساته الأكاديمية، وإصداراته الأدبية وحصل على شهادة الدكتوراه، وكان نشيطا في الحركة الثقافية الفلسطينية حتى رحيله في العام 2015م.

وإذا كان الغليان الثوري، إن جاز التعبير، الذي صبغ سنوات الخمسينيات والستينيات في المخيم، كان المولد الثقافي- السياسي في المخيم، فإن الأمر اختلف مع الاحتلال عام 1967م، حيث كان على أبناء المخيم أن يبدأوا مبكرًا انتفاضتهم، في ظل غياب العديد من الرموز الوطنية والحزبية التي شتتتها حرب حزيران، وينشأ جيل حمل الحجارة بيد والكتاب باليد الأخرى، وليلعب مركز شباب الدهيشة الاجتماعي دورًا ثقافيًا بارزًا، بقيادة العديد من النشطاء، وشملت نشاطات المركز إقامة الندوات الثقافية التي حاضر فيها ضيوف من خارج المخيم، كالشاعر الراحل عبد اللطيف عقل، ومناقشة الكتب، والندوات الثقافية، والمهرجانات الفنية- الثقافية، وإصدار مجلات الحائط التي وفرت الفرصة لنشر نتاج فتية وشباب المخيم، وكاتب السطور واحدًا منهم، ولكن تجربة المركز الفريدة لم تستمر طويلاً، حيث تعرض للإغلاق المتكرر من قبل سلطات الاحتلال، ولم تنجح المحاولات اللاحقة في ظل السلطة الوطنية الفلسطينية لافتتاحه.

برز في حقبة الثمانينيات من الشعراء، سميح فرج، الذي أصدر عدة دواوين شعرية، وما زال يواصل مسيرته الشعرية، وفي الحقب اللاحقة ظهرت أصوات شعرية وأدبية مثل الشاعر وليد الشيخ، والكاتب صالح أبو لبن الذي أصدر رواية- سيرة بعنوان "البيت الثالث"، ومؤخرا أصدر كتابًا بعنوان "أربعون يوما على الرصيف"، رصد تجربة اعتصام أهالي المخيم لمدة أربعين يومًا تزامنًا مع إضراب عدد من شباب المخيم الأسرى عن الطعام.

أبو لبن واحد من الأسرى الذين تحرروا في صفقة تبادل الأسرى الشهيرة في أواسط الثمانينيات، وتجاربه الأولى في الكتابة ظهرت وهو داخل السجن، وهو أيضًا ما حدث مع زميله الراحل الشاعر محمد أبو لبن، مؤلف نشيد "عسقلان" الذي نظمه في سجن عسقلان عام 1976، ولحّنه الأسير محمد أبو الزنابيط من سكان بلدة دير الغصون، وسرعان ما انتشرت القصيدة في كل السجون والمعسكرات الاحتلالية، لتصبح أغنية المعذبين في مواجهة الجلادين، وصوت المتمردين على العبودية وسياسة الإذلال المتعمد، وسؤال الحرية الدائم في معارك صامتة تجري خلف قضبان السجون.

واعتمدت وزارة شؤون الأسرى والمحررين، التي أصبحت هيئة شؤون الأسرى، النشيد، نشيدًا للحرية في كافة المناسبات والنشاطات التضامنية مع المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأصدرت الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أبو لبن، وكذلك فعلت بإصدار أشعار المربي عيسى العزة، وهو من مخيم العزة، درس في مدرسة الدهيشة وأصبح مدرسًا فيها، وتأثيره الأدبي على طلبة المخيم يذكر دائمًا.

ومن كُتّاب المخيم المعروفين صلاح عبد ربه، الناشط الاجتماعي والوطني، والذي يعد واحدًا من مؤسسي العمل الاجتماعي- الثقافي- السياسي في المخيم، والذي ترأس الهيئة الإدارية لمركز شباب الدهيشة أكثر من مرة، وله عدة إصدارات في شؤون اللاجئين، ودراسة مخطوطة عن قرية زكريا المهجرة.

وبرز الدكتور خضر سلامة، كباحث في شؤون القدس، والذي عمل مديرًا لمكتبة الأقصى وللمتحف الإسلامي في القدس، وصدرت له عدة كتب حول مكتبات القدس، والآثار المقدسية، إضافة إلى كتاب عن قرية زكريا. ووضع الصحفي محمد مناصرة عدة كتب، من بينها كتابه عن حصار كنيسة المهد، موثقا يوميات الحصار الذي حدث في شهر نيسان 2002م.

ونشر المربي يوسف عدوي، عدة كتب معرفية في المعلومات العامة، وخاصة عن فلسطين وقضيتها، وانضم المربي أحمد علي الصيفي إلى قائمة كُتّاب المخيم بإصداره كتابًا نثريًا عام 2016م، بعنوان: "هل أصبح الوطن قصيدة؟"، ومن الأصوات الشابة في المخيم الروائي أيسر الصيفي الذي أصدر رواية "الدرس الأخير"، وحذيفة دغش الذي أصدر باكورته الروائية "يافا الجُلَنّارُ" هذا العام.

الشاعر وليد الشيخ، المولود عام 1968 في مخيم الدهيشة، يرى بأن الجغرافيا، بقصد أو بدون قصد، ساهمت في هذه الحالة الثقافية، ويقول: وقوع الدهيشة على تلة متوسطة الارتفاع ما بين القدس والخليل، جنوب بيت لحم، وعلى شارع رئيسي في فلسطين، أي بين العاصمة ومدينة الخليل، والتواصل مع مدينة بيت لحم كان يوميا وكان أولاد المخيم يذهبون بعد انتهاء الدوام المدرسي الى بيت لحم، وجزء منهم أيضا كان يدرس في مدارسها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هوية بيت لحم نفسها هي هوية شيقة، وهوية خاصة في تشكيل هوية أهل مخيم الدهيشة.

ويضيف الشيخ: يقال إن مخيم الدهيشة هو تجمع يضم بشراً من 52 قرية مهجرة في العام 1948. وحين يتجمع أولئك البشر القادمون من كل تلك القرى في مساحة لا تتعدى كيلومترا مربعا، هذا يعني اختلاط على كل المستويات، اللهجة العادات التقاليد، وأيضا نشأت قصص حب بين الأولاد من القرى المختلفة، هذا التزاوج والمزيج الذي حصل بين أهالي الدهيشة في تصوري، أعطاها حيوية، وأيضا وقوع المخيم على شارع رئيسي يمر منه المستوطنون وآليات الاحتلال، جعله في اشتباك دائم مع جنود الاحتلال الذين كانوا في متناول اليد. الوقوع بين القدس والخليل والمجاورة لبيت لحم.

تربينا نحن أولاد وأحفاد من هجروا من زكريا إلى الميل لاستخدام مصطلحات اللغة العربية الثقيلة، كنا نسمع قصص علاقتنا مع أهل عجور وهي القرية المجاورة والتي أيضا تم تهجيرها، وكانت بيننا مقولة قديمة: "أهل عجور ببصموا وأهل زكريا بوقعوا". فقعد عُرف عن أهل زكريا استخدامهم للقلم وبحب شديد وكأنهم يريدون القول نحن كان لنا تاريخ وماضٍ، سألت أبي وقال لي إن مدرسة زكريا موجودة منذ العشرينيات وأنه وجدي درسا فيها، وكان لديهم كتب في زكريا، وكانت الجريدة تأتي لزكريا، ويقرأها عدة أشخاص، كانت تأتيهم من يافا، واستغرب هذا الشغف الذي كان لديهم، إضافة إلى نسبة المتعلمين والمثقفين العالية بين أبناء البلدة، أمثال الشاعر خليل زقطان، وفي زكريا دير اسمه الجمال كان فيه رهبان وطليان وهو موجود الى اليوم، اعتقد أن هذا الدير ساعد على أن يكون هناك تواصل، السؤال: هل كان له بُعد ثقافي وهل اطلع أهل زكريا على الحضارة الأوروبية خاصة وهم تحت احتلال عثماني واحتلال انجليزي، مجاورة الدير قد يكون له أثر.

وعن تأثره الشخصي بزكريا والدهيشة، قال الشيخ: ولدت في بيت مهتم بالثقافة، فيه كتب لوالدي وعمي، وكنت أسطو عليها، وأسطو على كتب اخوتي الكبار رائد وخالد، فأحفظ القصائد من كتب المطالعة، وكانت بداية المراهقة، ولدت في بيت من بيوت الوكالة (الأونروا) لا يوجد فيه فرش، لكن فيه لوحات ماركس ولينين وإنجلز، أينما تذهب في بيوت الأقارب تجد لوحة مكتوب عليها: الماركسية اللينينية لوحة العصر. أصبح الواحد فينا مواطنا عالميا قبل أن يكون مواطنا محليا، وانفتحت أفق واسعة جدا، والكتب كانت تأتي من خلال الشيوعيين، وخاصة دار التقدم في القدس، وكانت تأتي عبر أفراد، والكتب بحد ذاتها سؤال، ففي الخمسينيات قرأ أبي كتاب "الأم" وكتاب "كيف سقينا الفولاذ" وكتاب "كان هذا في ضواحي روفنو"، وهي الكتب التي قراتها أنا في الثمانينيات في طبعات أخرى.

نحن أيضا لدينا أسئلة وسعيدون بطرق هذا الموضوع، ما الذي أبرز الدهيشة ثقافيا، كتب الثورة الروسية وكتب الحرب لا ندري كيف كانت تأتي، أبي قرأها في الخمسينيات وأنا قرأتها في الثمانينيات من بيت أحمد المحسن وبيت عمي وجيه، الكتب كانت تأتي من خلال الأحزاب كان لديها دور كبير وهي أحد مصادر الكتب الرئيسية وبالذات الحزب الشيوعي والتيارات السياسية الأخرى.

الكاتب صالح أبو لبن، مواليد الدهيشة سنة 1953، يقول: المخيم يسكنني ورسالته في داخلي عشت فيه 55 عاما، أصلي من زكريا جنوب غرب القدس، شرق اللد والرملة، زكريا لها تاريخ وحضور وفيها قلعة عسكرية أعطتها مكانة كبيرة، يقال إن أهل زكريا هجروا منها في 16-10-1948. وكان فيها شيخ أزهري تخرج سنة 1938 مع الشيخ أمين الحسيني وكان له شأنه في المنطقة وهو خليل أبو لبن وهو من زكريا، الناس مبكرا لديهم تعلق بالثقافة والعلم وكان ظاهرة في حينه.

ويضيف أبو لبن: ولدت في خيمة، طفولتي كانت قاسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كنا أطفالا حفاة عراة جوعى، دخلت المدرسة سنة 1959 وأحد المدرسين اكتشف بي نبوغة مبكرة وما زلت احتفظ له بهذا الموقف، كانت المدرسة من الصف الرابع ثم تطورت إلى الصف السابع، كانوا ينتقلون الى الخليل واللد والرملة ومعظم الناس بعثوا بأولادهم لإكمال تعليمهم في المدن. في البداية، في سنة 1949 برز في المخيم ستة الى سبعة معلمين واتفقوا على إنشاء مدرسة، وجلسوا على التراب وبدأوا بتدريس الطلاب وقرروا أن يخرجوا بمظاهرة الى مقر القائمقام في بيت لحم، ومسيرة أولاد يحملون يافطات مطالبة بتوفير التعليم لهم، وهوجمت المظاهرة واعتقل جميع المعلمين لعدة أيام، وأعتقد أن مدرسة الدهيشة هي أول مدرسة تُبنى في مخيم للاجئين الفلسطينيين.

في سنة 1967، أصيب أبو لبن بقصف احتلالي وتوجه نحو العمل المقاوم واعتقل سنة 1970 وحكم عليه بالسجن 25 عاما، فكانت السجون بداية تشكله الثقافي، يقول: البداية مع سجن عسقلان، بعد مرور عامين من وجودي في السجن، في العام 1972 وضعت لنفسي خطة لتمضية أيام السجن بما ينفع العقل، فكان الاهتمام بالثقافة، ووضعت برنامجا لقراءاتي حيث بدأت مع الفلسفات الدينية، ثم انتقلت الى الأدب والشعر والمسرح وكافة الأجناس الأدبية، وكتبت القصة والمسرح في السجون، خاصة منتصف السبعينيات في سجن عسقلان.

نملك خليل زقطان وهو شاعر مفوض ومقتدر وقوي في الأربعينيات والخمسينيات، وكان من الصف الأول في الشعراء الفلسطينيين. وكانت في بلدنا أحزاب مثل عصبة التحرر التي صارت فيما بعد الحزب الشيوعي، دلالة على اهتمام البلدة بالعمل السياسي والوطني، وأبناء زكريا موجودون في مراكز كثيرة، وتمتلك أسماء متقدمة في العمل الجماهيري والشعبي، ومن أبرز الأسماء الأدبية في الدهيشة: أسامة العيسة، ووليد الشيخ، وخضر سلامة، ومحمد أبو لبن، شاعر كتب أربع دواوين في السجون، والشاعر عيسى عدوي، وصلاح أبو شيخة، كاتب وسياسي رجل شمولي في الدهيشة ومتقدم على الصعيد الثقافي والوطني والاجتماعي، إضافة إلى صحفيين بارزين وأصحاب مراكز مهمة في الأمن والمؤسسات.

الشاعر سميح فرج المولود في الدهيشة سنة 1955، قال: ولدت وعشت وكتبت في أجواء من الاشتعال لا تنصفها إلا الدراسات المعمقة، فالمخيم هو الانتفاضات المستمرة والمخيم هو الشعر المتقد والرؤية الثاقبة، منع التجول والاعتقالات والقهر والجوع والفرح أيضا. هو نقيض الصالونات الفارهة والنفسيات المريضة التي حاولت أن تسرق كل شيء، مثلنا في البيادر السياسي، الفجر الأدبي، الشعب، الكاتب، ومنابر لا حصر لها. وقلت لأحد الأصدقاء ذات يوم: بقيت مدينة واحدة لم نفتحها شعرا. المخيم هو الحلم الذي لا يخضع لترويض أو مناورة ولا يقبل الألوان الفاقعة والباهتة أيضا، هو الكتابة العذبة والشفيفة والدفق الإنساني، كما الصوت مرتفعا في كتاباتنا، نعم لكنها كانت هي الضرورة لكنه الصوت الذي لا يخلو من الجماليات الأخاذة، وما زلنا نحاول تطوير أدواتنا الفنية فإن أردت معرفة المصطلحات الطاهرة عليك بالعودة الى المخيم. المخيم هو الرؤية والتجربة والهوية، المخيم هو مفتاح كل المغاليق، وهو ايقاع الحياة أيضا هو ميثاقنا الفلسطيني، واذا كانت بيت لحم هي الأولى لجبرا إبراهيم جبرا، فالمخيم هو قوى البئر الأولى والثانية والعاشرة لنا، فإذا أردت أن تفهم السياسة والاقتصاد وتتحصن بالفكر عليك قراءته قراءة منصفة. حاول التجار مثل أنطولوجيا الشعر الفلسطيني لأسامة الجيوسي تجاوزنا ذات يوم، فقلت إنه أمر طبيعي أن نحاصر من تجار الأدب والسياسة الفاقعة، فحضور المخيم بشكل لافت يؤرق الأميين وأصحاب الصالونات ذوي الأسماء الفارغة الكبيرة.

في المخيم أعتز بأنني كتبت قصائد "عبأني موج البحر وقال"، و"اسطبل خيل فارعة مغناة" وقصيدة "لا تعترف" وغيرها. وصدرت له ستة دواوين شعرية: "عبأني موج البحر وقال" 19681، و"المخيّم.. أنشودة الإعصار" 1985، و"المقنّع" 1991، و"احتفال"، و"وشتاء" ، و"الآن تماما" 2006.

هو المخيم الذي أحاطه الاحتلال في الثمانينيات بسياج على طوله، يأتي الاحتلال ليضع جدارا إسمنتيا أو حديديا فيحوله المخيم إلى جدار للتعلم والمقاومة، عليه يرسمون ويخطون الشعارات الوطنية والدعوات للإضراب التجاري.

مبكرا، انخرط المخيم في النضال، واعتاد أهله صوت الرصاص الذي يمزق سكينة الليل، وعُرف بشراسته في المقاومة، وسرعة اندماجه في المناسبات الوطنية والانتفاضات والهبات الشعبية، جاعلا الثقافة والعلم سلاحا ضروريا في معركته ضد الواقع الذي فُرض عليه.

وفي بداية الثمانينيات، كان الاحتلال يطوق المخيم لساعات ليتمكن من التقدم بضع خطوات بداخله، وبحسب الإعلامي ناصر اللحام، فإن الاحتلال لجأ في 1981 إلى استخدام باصات النقل العام على مدخل المخيم ليخترقه لمسافة 100 متر فقط.

الأستاذ في مدرسة الدهيشة والمحاضر في جامعة بيت لحم، يوسف عدوي، والذي تعود أصوله إلى قرية راس أبو عمار المهجرة، تنبه مبكرا لإعلاء الشأن الثقافي في المخيم، وأسس مبادرة "المدرسة مصنع الرجال والإبداع"، وتفعيل اللجنة الثقافية في مدرسة الدهيشة، وبدأ مؤخرا بكتابة تجارب المبدعين من الدهيشة ومن درسوا في مدرستها، وكان له حوارات معهم، وعرفنا بهم، ومما أنجزه: صلاح أبو شيخة، المولود عام 1948 في قرية الولجة في محافظة القدس، مفكر وناقد وكاتب. وكان له دور مهم في الأنشطة الثقافية والمجتمعية في الدهيشة، درس في مدرسة الدهيشة (1955-1963) وحصل على شهادة الدراسة الثانوية العامة 1990م، وعلى ماجستير في القضايا العربية المعاصرة من جامعة بيرزيت 2003م، والذي تحدث عن الهروب من واقع المخيم باتجاه الكروم والصيد، مضيفا: كنا نلعب كرة القدم بطابة الشرايط، ولعبة عسكر وحرامية، والقناطر بالحجارة، وأولك يا اسكندراني، وهواياتي كانت القراءة والكتابة، أخرجت مسرحية حصحص الحبوب للكاتب توفيق الحكيم، وعرضتها مع مجموعة من شباب المخيم في ساحة مدرسة بنات الدهيشة سنة 1972، ونشرت أبحاثا ودراسات أدبية ووطنية واجتماعية، في مجلة شراع المقدسية، ومجلة كنعان، وبيادر المقدسية، والفجر الأدبي، وجريدة الفجر، وأصدرت كتب: اللاجئون وحلم العودة إلى أرض البرتقال الحزين 1996، والأونروا: بين مأساة التاريخ وملهاة الحلول 2005، وصاحب الملحمة الوطنية (يا نقب كوني إرادة كوني فجراً وريادة).

التقى طلبة المدرسة بسعيد عيّد، رئيس دائرة اللغة والعربية والإعلام في جامعة بيت لحم، خريج المدرسة سنة 1976م وهو من المبدعين على مستوى الوطن والعالم العربي. وتحدث عن ظروف دراسته الصعبة في مدرسة ذكور الدهيشة ( 1967-1976م ) حيث الفقر وقلة الإمكانيات، وبدايات الاحتلال للضفة الغربية، وأنه عمل في معظم الصحف والمجلات الفلسطينية كالفجر والقدس والعودة والبيادر وغيرها، وأحد مؤسسي هيئة إذاعة وتلفزيون فلسطين وتلفزيون في بيت لحم، وعمل في رويترز، وأحد مؤسسي ورئيس المنتدى الثقافي (1991- 1994م ) ومحاضر في العديد من الجامعات الفلسطينية.

مدير منطقة الخليل في وكالة الغوث أمجد أبو لبن، خريج مدرسة الدهيشة سنة 1978، والمنحدر من قرية زكريا المهجرة، عام 1948م، يحمل شهادات عليا في الاقتصاد، تحدث عن ظروف دراسته في المدرسة من حيث صعوبتها في تلك الفترة، رغم ذلك قال أنا والشباب من جيلي حققنا أهدافنا وصرنا مميزين ومبدعين وحققنا انجازات كثيرة؛ لأننا جعلنا من الجبهة العلمية والثقافية أساسا في مواجهة الاحتلال ومحاولته طمس وجودنا وتاريخنا وهويتنا، وذكر ألمانيا واليابان كأمثلة على ذلك في التطور والتقدم والبناء والخروج من المحن وتجاوزها.

وفي لقاء مع الكاتب الصحفي أسامة العيسة، خريج المدرسة عام 1979، وينحدر من قرية زكريا، حضره أكثر من مئة طالب من المدرسة، والذي أصدر عام 1984 أول كتبه: "ما زلنا نحن الفقراء أقدر الناس على العشق"، وكتب في المواضيع المهمة التي تمس الفلسطيني مباشرة، فتناول الفقراء والبسطاء والمهمشين، وتحدث عن بعض مؤلفاته: (المسكوبية، وقبلة بيت لحم الأخيرة، ومجانين بيت لحم التي حصل من خلالها على جائزة الشيخ زايد للرواية العربية عام 2015م، وروايته الأخيرة الصادرة سنة 2017م وردة أريحا).

ثم تحدث أسامة عن ذكرياته المدرسية، وكيف ارتاد المكتبة زاده اليومي، وقراءته ما فيها من كتب وروايات، وقال إنه وجيله عاشوا ظروفا أصعب من ظروف طلاب اليوم في كل النواحي وسهروا وتعبوا، كما استقبلت المدرسة، الصحفي ناصر اللحام خريج المدرسة سنة 1981م، والمنحدر من قرية بيت عطاب المهجرة، وحاصل على الدكتوراه في الإعلام، ويشغل مدير ورئيس تحرير فضائية وشبكة معاً الإخبارية، وعدد من الاذاعات وقنوات التلفزة المحلية والعربية والدولية، وصدر له عدة كتب، منها: تل أبيب مدينة بلا أسرار، وفتح السيف والقلم، والإعلام في ظل حكم حماس.

أما الدكتور خضر رحال، والذي تهجر من عرتوف، ودرس فيها الصف الأول ابتدائي عام 1948، ثم التحق بمدرسة ذكور الدهيشة الإعدادية منذ تأسيسها في الخيام، حتى تخرج منها سنة 1957، وحين كانت المدرسة للمرة الأولى تستقبل طلبة الصف الأول في بنائه الحديث بالحجارة والباطون سنة 1956، ثم حصل على الماترك عام 1959من مدرسة بيت لحم. وكان ضمن العشر الأوائل في فلسطين والأردن، وحصل على منحة دراسية في الجامعة الأمريكية في لبنان، وتخرج بشهادة بكالوريوس في العلوم سنة 1963، وبكالوريوس في الطب عام 1968، ثم الماجستير والدكتوراه من الجامعة نفسها، وهو اليوم من أفضل خمسة أطباء في العالم في أمراض الدم والسرطان، وحصل على درجة بروفسور (عالم في الطب) سنة 1990، وله عشرات البحوث وكتب عديدة في الطب، في سنوات السبعينيات، وحول حياته في المخيم، قال: خيام وغرف وكالة لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، لا ماء ولا كهرباء، لا مصروف يومي، لا ملاعب، لا أية إمكانيات تسمح بالقيام بأبسط الهوايات، لقد كنا ندرس على السراج، الدراسة من أجل الخروج من هذا النفق، وتحقيق الذات.

ومن خريجي مدرسة الدهيشة في سنة 1989، الدكتور فادي أبو فضة والمنحدر من قرية عجور المهجرة، والحاصل على الدكتوراه في الطب تخصص الأنف والأذن والحنجرة وجراحة المناظير، وعمل في الكثير من المستشفيات الفلسطينية والعالمية، وشارك في العشرات من المؤتمرات الطبية المحلية والدولية.

صورة كثيرة توثق أن المدرسة هي الأصل وأساس الإبداع، وبداية الدرب إلى النضال ومناصرة القضايا العادلة في الوطن وخارجه. في العام 1998، يجمع أطفال مدرسة الدهيشة أقلام رصاص ليبعثوا بها إلى أطفال وطلاب العراق المحاصر.

صورة أخرى حصلنا عليها من صفحة يوسف عدوي، لفريق التمثيل الدرامي حول سرقة الآثار وكيفية مقاومتها، لمدرسة الدهيشة سنة 1979، والصورة تظهر مجموعة من الطلبة من بينهم الشهيدان عزمي تيلخ (2001) والشهيد معين الأرش (2013). وصورة ثالثة لدى مغترب من الدهيشة، تُظهر نادي الدهيشة الرياضي سنة 1971، وصورة لحملة تضامنية مع نادي "سيلتك" الاسكتلندي، من أجل جمع التبرعات للمساهمة في سداد قيمة الغرامة المالية التي فرضها الاتحاد الأوروبي لكرة القدم على النادي، بعد أن رفع الأعلام الفلسطينية في مباراة جمعت الفريق مع نادي "هبوعيل" الإسرائيلي في العام 2016، 300 طفل تبرعوا بمصروفهم الشخصي لصالح "سيلتك.

 

ha

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024