"البدودية"
معن الريماوي
يمسك الحجر بكلتا يديه، يتعبه تحريكه المستمر له لفترة طويلة، ثم يقلب حبات الزيتون ليتأكد من دهس كل الحبات، ثم يعيد تحريك الحجر مرة أخرى. يأخذ حجرا كان قد ألقاه في النار ويضعه على حبات الزيتون، يبدأ صوت "الطشة" بالارتفاع، بعد فترة قليلة يقترب ليتذوق الزيت الذي خرج للتو، ينظر إلينا ثم يقول "مرارة المذاق قد ذهبت".
يضطر الواقف الى الركوع والإنحناء ليرى لمعان الزيت وهو ينساب ببطء نحو الحفرة التي يتجمع فيها لإنتاج كمية معينة، هي ذاتها الطريقة التي علمها إياها والده، والتي أتقنها من جده، ولا يقدر أن يتخلى عنها.
ينتظر خروج الزيت قطرة قطرة. يحتاج الأمر لفترة طويلة، يقف ويمسح العرق الذي يتصبب من جبينه طوال فترة تحريكه للحجر، يمسح جبينه بيديه الممزوجتين بالزيت الذي ينساب الى ثنية عباءته، يتشكل خطان من اللون الأسود الذي التصق بيديه بفعل عصر الزيتون وتحريكه.
أيوب سرور ( 47 عاما) من قرية نعلين غرب رام الله، ما زال يستخدم "البدودية" منذ 40 عاما الى اليوم، ويعيد التراث القديم الذي بدأ بالاختفاء شيئا فشيئا.
و"البدودية" عبارة عن هرس الزيتون بحجر كبير، وبسبب شدة الضغط يبدأ الزيت بالسيلان ببطء في حفرة صخرية.
"مفيد جدا للجسم، يساعد في منع أمراض القلب وتلف الأوعية الدموية، والتمتع بجهاز هضمي صحي، يقوي العظام والمناعة لدى الإنسان، كثير من الناس يلجأون لي لغرض العلاج، ورثناها عن الرومان"، قال أيوب عن زيت البدودية.
بعد قرابة الساعة، تجمع الزيت في الحفرة، أحضر صحنا ووضع الزيت بداخله، مع العلم أنه في هذه الفترة قد يجمع أي مزارع عشرات الكيلوغرامات من الزيت في حال ذهابه الى أي معصرة حديثة، معلقا على ذلك أن الناس كلها تذهب هناك، إلا القلة الذين حافظوا ملا زالوا على تراث أجدادنا وعاداتهم القديمة، فضلا عن فوائده الأكثر من العصر على الآلات.
ما بين خطوة وأخرى، يردد أغنية "نغني ع البداوية"... وحين السؤال عن السبب أجاب، أن أصل الأغنية من البدودية، والبداوية أصلها البدّ. الناس في السابق كانت تجتمع وتقيم حفلة بين أشجار الزيتون، ويقومون بعمل البدودية.
وخطوات عمل البدودية، هي قطف ثمار الزيتون وجمعها في إناء، ومن ثم وضعها على النار لعدة دقائق حتى يخرج الماء من داخلها. ومن ثم تنقل ثمار الزيتون الى مكان مخصص وهي الصخور المنحوتة لدقها بصخرة متوسطة الحجم وطحن نواة الثمار الصلبة، وحتى يسهل عصرها. بعد ذلك توضع وسطها حجارة صغيرة ثم حرقها حتى تصبح حرارتها عالية، والهدف طرد مرارة المذاق.
الخطوة الأخيرة، توضع في كيس وفوقها أحجار كبيرة ليبدأ الزيت بالانسياب والتجمع في الحفرة الصغيرة.
قديما، وبخلاف الطريقة التقليدية كان الأجداد يلجأون الى عصر حبات الزيتون دهسًا بالأقدام، أو عبر "الرحى"، وهي عبارة عن قطعتين مستديرتين من الحجر وتوضع بينهما الحبات وتداران باستمرار حتى تعصر بشكل كامل.
لكن ومع وصول الوسائل الحديثة، والآلات والمعدات التي تعصر الزيتون بشكل أكبر وبوقت أقل، أصبحت "البدودية" جزءا من التراث والتاريخ القديم.
انتهى سرور من تجميع الزيت في الصحن، ويقوم بإغلاق الحفرة بحجر كبير، يذهب للجلوس تحت شجرة ويدعونا للقدوم وتذوق الزيت الذي استمر عمله أكثر من ساعة، ويقول "طعمه يبقى في فمك أكثر من أسبوع".
ha