جدار الصين الأخضر العظيم
صحراء ماو سو (منطقة الحكم الذاتي- نينغشيا) - جميل ضبابات
تنظم كثبان الرمل على مد النظر؛ صاعدة وهابطة في صحراء ماو سو الشاسعة، رغم ان عدد ساعات سطوع الشمس سنويا ما بين 2250 إلى 3100 ساعة سنويا، الا ان ريحا باردة تجعل من الوقوف على كثيب رملي يشغل بال العابرين على ندرتهم.
وهذا ليس كل شيء.
فالصحارى التي تمتد على مساحة تصل الى اكثر بقليل من 20% من مساحة هذا البلد الذي تصل الى 9.6 مليون كم مربع شغلت بال الصين منذ عقود طويلة.
واقفا على تلة رملية متماسكة مرتفعة يروي وي مانج الذي يدير محمية بايجتان الواقعة على الحواف الغربية للصحراء كيف استطاع الصينيون وقف زحف الرمال الى المدن.
تقول نشرة تعريفية وزعت على الصحافيين في الصحراء، "يقوم مصدر بايجيتان الرملي بدور لا غنى عنه في منع تمدد صحراء مو أوس غربا وجنوبا، مانعا الطمي من الوصول إلى النهر الأصفر، ما يساهم في تحسين الوضع البيئي في ينتشوان، وضمن الأمن البيئي في المنطقة".
على مدار ستين عاما عملت ثلاثة أجيال لمكافحة التصحر، حتى تشكل حاجزا أخضر بمساحة 42 ألف هكتار في المنطقة.
"منذ عام 2000 قدمت بايجيتان دفعة هائلة لعملية الوقاية من التصحر والتحكم به بمعدل 2000 هكتار في السنة، لتصنع بذلك معجزة في تاريخ التحكم بالتصحر" تقول النشرة.
يردد منيج الأرقام ذاتها وهو يشير الى نتائج تلك المعجزة.
وتحت أقدام السائرين تظهر الرمال اكثر تماسكا. فالرمال تتحرك تحت ضغط القدم الشديد، لكنها تبقى نسبيا متماسكة أمام هبوب الرياح.
وهناك إشارة عملية لذلك، فهي تعلق بالأحذية ولا تتطاير الى الوجوه.
وكلما هبت ريح غير محددة الاتجاه لا يتحرك سوى قمم شجيرات صغيرة زرعت خصيصا لوقف زحف الرمال.
واقتطعت القدرة الصينية خلال السنوات الماضية جزءا كبيرا من النقاش العالمي حول التصدي للتصحر.
طالما هددت الصحراء الزاحفة المدن في المنطقة.
فالمدن والحواضر الزراعية القريبة منها عانت منذ فجر التاريخ من الهبوب المدمر للرياح المحملة بالرمال.
لكن مانج وفريقه يتحدثون اليوم عن تقدم كبير وصف بالمعجزة منذ عقدين لصد تلك الرياح.
وكانت الرمال المتطايرة تصل الى بعد يتعدى ألف كيلو متر حين كانت تلامس سماء العاصمة بكين.
منذ الخمسينيات عندما التفتت الجمهورية الاشتراكية الشابة للبناء، وظهرت فورة البناء والتمدد والعمران وتوسع نطاق الأراضي الزراعية واجهت التصحر.
هنا في منطقة الحكم الذاتي التي تسكنها اقلية الغوي المسلمة تأسس مركز التشجير لزراعة الصحراء في العام 1953.
انها صحراء مقفرة تماما الا من بعض المنشآت الصناعية الكبيرة.
فلولا بعض الأدخنة التي تظهر عن بعد عدة كيلومترات تتصاعد من فوهات انابيب ضخمة لانعدمت مؤشرات الحياة.
من تلك المنشآت الى الشرق تقع قاعدة نينغدونغ للطاقة والهندسة الكيماوية.
وثمة 8 صحارى اخرى في الصين اكبرها صحراء جوبي التي تقع الى الشمال من هنا.
لكن الصين تقول انها الان في خضم العمل الحقيقي. "نحن نعمل للسيطرة على الصحراء". من على بعد تظهر اجزاء واسعة من سطح صحراء ماو سو مثل شبكة من مربعات متساوية الاضلاع.
ومن على قرب يظهر كيف عمل الصينيون على زراعة القش المتيبس وفق نظام متين لمنع تحرك الرمال.
يقول مينج "فقط 17 سنة استطعنا السيطرة على نصف هذه الصحراء. زرعنا اكثر من 1000 مليون شجرة".
وتظهر في الحقيقة شجيرات قصيرة ليست مورقة ولا مزهرة. لكن يمكن تسميتها بكل واقعية: جدار الصين العظيم الاخضر.
فهي الحاجز الطبيعي الذي يصد الرمال ويمنع تقدم الصحراء إلى ينتشوان عاصمة نينغشيا".
"في الربيع تتحول الصحراء الصفراء الى اكثر اصفرارا واحمرارا (...) ازهار حمراء وصفراء" قال مينج.
وتحمل هذه الشجيرات التي تعاند زحف الرمال اسم كاراجانا ميكروفيلا. ويقول ميج ان طولها يصل الى المتر، لكن طول جذورها يصل الى 6 امتار في عمق الرمال الزاحفة.
طالما كان زحف الصحراء هاجسا فرديا ووطنيا في الصين.
لكن اجتماع الرياح والجفاف يهدد حتى مجرد التفكير السير من دون مقومات بنية تحتية في وسط الصحراء.
تقود الان شوارع مسفلتة واخرى ليست وعرة إلى عمق الصحراء. لكن الانجماد حاضر بقوة. فبقع قليلة من الماء المتجمد تعكس قسوة الحياة.
تنحدر درجات الحرارة في الشتاء إلى ما دون العشر تحت الصفر. لكن مينج يقول ان معدل هطول الامطار لا يتعدى 170 ملم سنويا.
لذلك اختاروا تلك الفصيلة من الشجيرات التي لا تعتمد كثيرا على الري.
في عمق الصحراء كان الامر مختلفا. فيمنج ذاته يشرف على سلسلة من المسطحات المائية التي تستخدم في ريم انماط مختلف من الاشجار التي زرعت لصد الرمال.
وهناك اقيم متحف اسموه "متحف ادارة الصحراء". يظهر منيج وفرقة مدراء الصحراء بجدارة. ويظهر بضع عمال وعاملات يواجهون برد الليل بتغطية جذور الاشجار بالقش المتيبس حفاظا على الرطوبة القليلة.
من تلة مشرفة على مسطح صحراوي منخفض تظهر البقع الخضراء وسط المسطح الاصفر الكبير.
"هنا طريقة مختلفة لتخضير الصحراء. هنا نستخدم المياه لري الاشجار. قبل عام 2004 لم يكن ير الناس هنا اي شيء. الان كل شيء مختلف" قال منيج.
انه وجه اخر للصحارى كما هي معروفة في العالم. فخيار الصين الوحيد يبدو الوقوف في وجه طغيان الرمال الزاحفة.
لكن هناك وجه خفي للحياة.
ردا على سؤال لمراسل "وفا" حول أشكال الحياة الأخرى في الصحارى الشاسعة قال مينج، ان هناك "128 نوعا من الحيوانات هنا، من ضمنها ثعالب وخنازير وذئاب".
انه مكان مثالي للحيوانات التي تتمتع بفراء سميك في واقع الحال.
لكن على طول مسافات طويلة من مدينة نيتشوان الى هنا لم يظهر في الفضاء سوى صنف واحد من الطيور.
انها مقفرة لولا علامات ظهور السور الجديد في الصين. لكن نينغشيا التي تصل مساحتها الى 66.4 الف كم مربع تشهد نموا اقتصاديا كبيرا.
تظهر الحركة العمرانية في نيتشوان عاصمة الاقليم في ذروتها. وأساسات الابنية تحفر على امتداد الطريق من المطار حتي مركز المدينة.
ويفخر سكان المقاطعة بزراعة البطيخ والعنب. والصحراء التي كانت مخيفة حتى وقت قريب هي وجهتهم.
بنى الصينيون جدارا يسمى سورا عظيما بهدف حمايتهم قبل الميلاد. وبنوا جدار ناريا لحماية شبكة الانترنت قبل نهاية القرن الماضي. انهم الان يسيرون في بناء نسخة خضراء من الجدران الدرع الذي يحميهم من الرمال الزاحفة.
وفي الاعلام الصيني قيل عن مينج ورفاقه "أبطال الصحراء".
واقفا على مقربة من متحف ادارة الرمال يبتسم مينج خجلا من هذا اللقب. "هذه كانت فكرة. نحن هنا جميعا شاركنا في تنفيذها". وتهب ريح تحرك قمم الأشجار وتترامى الصحراء من هنا حتى النهر الأصفر مستسلمة للون الاخضر.