المطاردون.. حياة على كف عفريت
لنا حجازي ولورين زيداني
حياة المطاردين انقلبت بين ليلة وضحاها.. تكتنفها القساوة، والمخاطرة.. يتنقلون خفية من مكان لآخر، متوقعين خبر استشهادهم، أو اعتقالهم بأي لحظة، يرتسم على ملامحهم القلق، والتخوف من المجهول.
الأسير المحرر منذ 9 أشهر محمد عبد الرحمن خمايسة (38 عاما) من بلدة اليامون جنوب جنين، كان مطلوبا من قبل الاحتلال الإسرائيلي لمدة عام ونصف خلال الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) عام 2000، اعتقل بعدها لمدة 15 عاما.
خمايسة الملقب بـ"أبو طول" يستذكر مواقف عاشها، وهو مطارد، فيقول "في إحدى الفترات بقيت مختبئا في مغارة أسبوعا كاملا، وفي فترة الاجتياح قضيت ليلة كاملة على إحدى الأشجار، وكان وقتها البرد قارسا، علاوة على الجوع لأيام".
"المطارد أيضا كثير التنقل حتى لو اختبأ في قاع الأرض، سيبقى خائفا أن يكشف، ويعتقل، ويعيش حالة من الشك والتفكير المستمر بطريقة موته، مسموما بالطعام أو مغدورا من أحدهم أو بسيارة مفخخة، ولا أمان للاستقرار في فراشك ومكانك وستخسر أبسط متطلبات الحياة"، يضيف خمايسة.
في إحدى المرات اختبأ في بيت عائلة، وبقي عندهم لمدة 20 يوما، في الثلاثة الأولى منها لم يذق فيها طعم النوم من القلق، والترقب عند الشبابيك، تحسبا لأي اقتحام للمنزل بسببه، حتى في الأيام الباقية التزم فراشه ومكانه الذي خصصوه له حفاظا على أمنهم، حتى وصلت به الحالة إلى التقليل من الطعام والشراب، حتى لا يستعمل المرحاض، ويتجول في المنزل.
وبالنسبة لمحمد، فإن أسلوب الحركة والتنقل يختلف من مطارد لآخر، حسب مكانه، ومنطقته، فيمشي على رجليه تارة، أو يركب سيارة تارة أخرى، أو يتنقل ليلا كما كان هو يفعل دون أن يتواصل مع أحد، يختار المكان الذي سيتوجه إليه، ويقصده مشيا، حتى لو استغرق يوما كاملا، ويسلك طرقا خلفية وعرة، بدلا من المعتادة، ولا يخبر صاحب البيت أنه متوجه إليه بشكل مباشر للاحتياط، فعليه أن يشك في كل تفصيل حوله.
دينا زوجة محمد من الداعمين له، خطبها عام 2000 دون أن يعلن بشكل رسمي مراعاة للظروف من حوله، وعندما التقى بها في احدى المرات مع أهله خلال فترة المطاردة، قابله الجميع بالحزن والبكاء وحديث الخوف على مصيره ومصيرهم من بعده، خاصة مع تهديدهم بهدم منزل العائلة، إلا أنه يتذكر كلام دينا التي شدت أزره، وقالت "الله يسهل عليك إذا كان لنا نصيب سنجتمع سوية كل ذلك بأمر الله، لا حزن ولا تفكير في الاحتمالات قد ينفع"، وقد حافظت على وعدها، ولحقت به من سجن لآخر، لم تتركه أبدا، بل هي التي عملت على بناء منزلهما الحالي.
وتشابهت الحكاية في أساسها عند محمد عدنان أبو الهيجا صديق خمايسة منذ الطفولة، وفي سنوات الدراسة ليصبح هو الآخر مطاردا على مدى عامين.
وفي حديث له مع "وفا: سرح ابو الهيجا مع ذاكرته ليستعيد ايام المطاردة، قائلا "المطاردة فترة سوداوية كنت أحس أن كل الدنيا تلاحقني، لا استقرار، ولا أمان، حتى دخولي إلى أي بيت مع كل الاحتياطات الأمنية، إلا أنني كنت أعيش تهديد الاقتحام في أي لحظة، حتى أننا لم نحظ بنوم هانئ من القلق، ولم نستطع الاستحمام لـ4 أو 5 أيام، والطعام يدبر حسب الظروف، والمتوفر منه لدى العائلات التي تستضيفنا، ويزداد التوتر لدى المطارد مع خوف أمه واخوته وأصدقائه الدائم عليه، وجهلهم للمصير الذي ينتظره، ولا يستطيع الوصول إليهم وتطمينهم على حالته، خاصة أن الاتصال بالهاتف شبه معدوم. يقول محمد أبو الهيجا.
صعوبة الموقف بالنسبة لمحمد كانت تتعاظم عند لقائه مع والدته كل 20 يوما أو شهر بعد تأمين منطقة العائلة، والمنزل، باصطحاب عدد من زملائه الذين يحيطون المكان وينبهونه في حال أي تحرك يهدده بالخطر، أما في داخل المنزل يقول محمد إن صدره يحترق على والدته التي لا تتوقف عن البكاء في حضنه وتقبيل وجهه ومحاولة إبقائه بجانبها، ويحس من جهته بمسؤولية أكبر في الحفاظ على حياته حتى لا تبكي أمه.
بالتمويه كان أبو الهيجا يدبر أمره في التواري عن أنظار الجيش، الذي كان يمر من شوارع القرية أو يقتحمها بحثا عنه وزملاءه، فكان إذا سأله أحدهم عن مكانه يقول مثلا إنه في اليامون لكن الحقيقة أنه في جنين أو يقول أنا في السيلة الحارثية، وهو أصلا موجود في مكان آخر.
حتى عند نيته الاختباء في بيت أخته، يتردد على المنزل قبل اليوم المنشود عدة مرات في الايام التي تسبقه، لضمان عدم المراقبة، وخلو المنطقة من أي خطر محتمل، وكان يلجأ للتنكر كأن يرتدي زيا تقليديا لرجل كبير في السن أو زي امرأة ليضلل من يراقبه.
ومن المواقف الصعبة التي عاشها محمد أبو الهيجا ولن ينساها وهو مطارد، عندما كان مع أربعة من أصدقائه حيث طوقت اليامون، وتعرضت لعدة اقتحامات، فأووا إلى بيت أحد الأصدقاء.
يقول محمد، "كنا قد اجتمعنا ليلا ودار بيننا حديث حول كيف أنقذ نفسي، فقال صديقي ذاك الذي كان متزوجا وأبا لطفل "مجرح ولا مقتول" لأرد عليه بقولي "مقتول ولا مجرح"، وبعد 6 أشهر من تلك الليلة استشهد صديقي بعد استهدافه من قبل القوات الخاصة الإسرائيلية واعتقلت أنا لأسجن بعدها لـ13 عاما، لينتهي كل منا بعكس الموقف الذي يؤمن به".
ويتابع ابو الهيجا، "رغم كل الصعوبات والتهديد لحياتك إلا أنك تفرح بحب الناس من حولك واهتمامهم وخوفهم عليك، وسؤالهم الدائم عن حالتك خاصة الذين يفتحون لك بيوتهم ويقدمون لك كل ما تحتاج، دون الخوف من الاستهداف من قبل الاحتلال، حتى الصغار الذين يلاقونك في الشوارع بابتسامة الفخر بإنجازك أنك مطارد شاب صغير السن رغم امكانياتك المتواضعة، ويحتضنونك ويقبلونك ويرغبون بالاقتداء بك والسير على دربك حتى دعمهم لأهلك".
عبد الفتاح دولة يسرد قصته حينما كان مطاردا لما يزيد عن أربع سنوات، ويرى أن الحاضنة الشعبية اساس في أمان المطارد، واستمراره، عندما يستقبلونه في بيوتهم، ويتحملون الخطر بوجوده بينهم.
ويقول: الحاجة التي استضافتني في منزلها لأيام كانت تقضي وقتها نهارا على باب المنزل لحراستي، وتدقق في كل زائر قادم إلى بيتها، وعن سبب قدومه، وإن كان موثوقا لتستقبله، ومن يدخل بيتها تجلس معه في غرفة وتقفل علينا في أخرى دون أن تعلمه بوجودنا، حتى أنها قلبت نظامها من أجلنا، فكنت أنام نهارا واستيقظ ليلا أخلد إلى النوم في الـ8 صباحا، واستيقظ بعد العصر، وعلي أن أكون متيقظا ليلا فهي الفترة الأخطر على المطارد، والحاجة تقدم الإفطار عصرا وقت استيقاظنا تلحقه بطعام الغداء، ثم العشاء".
"لكن كرم الناس وحبهم لا يمنع المطارد من التزام المحاذير الأمنية اللازمة لأمنه، فتكون أولا بالابتعاد عن منزل العائلة، ومحيطه أمه، وزوجته، وإخوته، لأنهم المستهدف الأول من قبل الاحتلال. ومن المحاذير أيضا التواري عن الأنظار باللجوء إلى المغر، والجبال البعيدة".
"في احدى المرات اضطررنا لاستخدام ما يسمى بالـ"مِكر"، وهي حفر أرضية في الصخر، يبنيها الفلاحون لتكون مشربا للدواب في موسم الزيتون، وقتها كان الـ"مِكر" مليئا بمياه المطر، والحاجة جبرتنا على استخدامه" يقول عبد الفتاح دولة.
في الشتاء أصيب دولة في إحدى المرات بنزلة برد شديدة بعد قضاء 20 يوما متتاليا في أحد الجبال، واضطر للنزول الى رام الله، ولجأ إلى أحد البيوت بحثا عن طبيب بدل الذهاب إلى المستشفى من باب الأمان، وعندما لم يجد ضالته، عرض عليه أحد الضيوف أن يقله بسيارته.
يقول، "ترددت بين أن أقبل ان أذهب معه وأخاطر، وبين أن أرفض وأثير شكوك أهل البيت، فعلى المطارد أن يقدر الأمور، ويتخذ قرارا حكيما، فلم أبد رغبة واضحة بالذهاب، إلا أنني وافقت على الذهاب إلى الطوارئ حيث يستقبلون الشخص دون السؤال عن هويته".
ويتابع، "لكن التحدي الأكبر كان مع الشخص الذي أقلني، ويرغب في التعرف على اسمي، ومهنتي، وحياتي، وأنا يجب أن أكون مستعدا بأجوبة مغايرة، ولكن واثقة متقمصا الشخصية دون ارتباك، لا تثير شكوكه حولي، فقلت له اسما آخر غير اسمي، وأنني مسيحي وطالب في علم اللاهوت".
في الفترة الأخيرة من المطاردة استقر دولة في أريحا، وفي عملية اقتحام واسعة شملت المدينة فحوصر هو وزملاءه في المنزل، الذي اختبأوا فيه دون فرصة للخروج، فانتهى أسيرا لمدة 12 عاما في سجون الاحتلال ليطلق سراحه في العام 2016، ويلتحق بجامعة القدس أبو ديس طالبا في الاعلام.
حكايات محمد خمايسة "ابو طول".. ومحمد ابو الهيجا.. وعبد الفتاح دولة أجزاء من صورة أكبر لحياة أفراد عاشوا التهديد بالموت في كل لحظة، وخسروا الكثير من مراحل حياتهم، في سبيل الدفاع عن حق وطنهم.
ـــــــــ