أعراس العشرينيات.. يوم تفاجأت الدواب بسيارة في الطريق
يامن نوباني
في عشرينيات القرن الماضي، كانت فاردة العرس ( الجاه ) في فلسطين، تتم بواسطة الدواب، من جمال وخيول وحمير، في إحدى المرات تفاجأ موكب الفاردة بسيارة تمر في الطريق! قادمة من القدس إلى نابلس.
اليوم، تغير الزمن وانعكست المفاجآت، أصبحت مواكب الفاردة المكونة من السيارات، تتفاجأ بدابة في الطريق.
في كتابه "نابلسيات.. من بواكير الذكريات والوجوه والصور الشعبية " يروي مالك المصري، تفاصيل زفاف عمه في بلدة قبلان جنوب نابلس، في العشرينيات: أحضر والدي إلى البيت عدة أثواب من القماش ذات الألوان الزاهية، لتفصل قريباتنا ملابسهن الخاصة بالعرس، ونالني قمباز وحذائين وطربوش أحمر غير مقشش. بعدها بأيام، بدأ الاستعداد للسفر من المدينة إلى القرية، فتجمع عدد من الحمير والبغال أمام المنزل، لحمل نساء العائلة، اللواتي تقاسمن ظهور الدواب وسارت القافلة، يمسك بأزمة الدواب بعض الصبية من الفلاحين من أبناء قبلان، أما الرجال فسبقونا على ظهور الجياد.
لقد كنت فرحا وأنا أمتطي الحمار خلف والدتي، ولما أصبحنا خارج المدينة شرقا، شرعت النسوة يغنين جماعة، فتارة الاغاني النابلسية الخاصة بالأفراح، وأحيانا على دلعونا، وع اليادي اليادي، وكوكية يا كوكية، تسوي ألفين وميه، تسوي القاضي والوزير، حتى رئيس البلدية. و"يا مية مية مسا.. يم العيون الناعسه.. يا مية مسا". يكتب المصري.
ويضيف: كانت الطريق إلى قبلان هي ذات الطريق إلى القدس، حتى المفترق المتشعب عن الطريق الرئيسية والمؤدي إلى القرية، وكانوا يصفون الطريق "طريق الكروسه" لأنها كانت عريضة نسبيا ومرصوفة بالصرار، بحيث كانت تصلح للعربات "الكروسات". أما السيارات فلم يكن قد شاع استعمالها بعد، وربما دخلت المدينة سيارة واحدة كل بضعة أيام، ولا تسل عن الفزع الذي أصابنا وأصاب الدواب عندما اعترضت طريقنا سيارة قادمة من القدس وزمر السائق ببوق اوتومبيله، أو (الطرمبيل) بلهجة أهل القرى فاضطربت الدواب وكادت تلقينا عن ظهورها، واخيرا من الاوتومبيل، بعد أن خلف وراءه سحبا من الغبار مختلطة برائحة البنزين فكدنا نختنق.
الطريق من نابلس حتى مفرق قبلان على الرغم من طوله كان سهلا، وكلما اقتربنا من القرية زادت وعورة الطريق، وزاد تراقصنا على ظهر الدواب، الى أن وصلنا أخيرا إلى مشارف القرية، فأقبل أهلها يستقبلونها بالترحاب والزغاريد.
في صباح اليوم التالي، امتطيت صهوة الفرس البيضاء خلف والدي وسرنا في موكب يضم عددا من الخيالة، رجالا ونساء، متجهين نحو قرية "أُوصرين" القريبة من قبلان لإحضار الفاردة "أي استلام العروس من عند ذويها والقدوم بها الى بيت العريس" حسب التقاليد والأعراف السائدة، وما كدنا نصل الى القرية حتى وجدنا في استقبالنا معظم رجال تلك القرية الصغيرة، وجلها أو كلها من ذرية (اسعد المفلح) أحد زعماء (مشاريق البيتاوي) فالعروس ابنته.
قيدت الخيول في الأماكن المعدة لها، وقادنا أهل العروس إلى داخل الدار، وقد لفت نظري في ساحتها وجود بعض الذبائح المعلقة في كلاليب من عراقيبها، والدماء ما تزال تنقط من رقابها، وكانت احداها لم يكتمل سلخها فرحت أراقب السلخ وبيده السكين يستعين بها على سلخ فروة الذبيحة عن جسدها ثم يجذب الفروة بكلتى يديه إلى الأسفل فيبدو ما كان خافيا من الجسد.
وصعدنا الى الطابق العلوي حيث دخلنا عليّة واسعة وجلسنا على حشيات صفت على جوانب العلية ونضدت فوقها الوسائد من أجل راحة الضيوف، وفي زاوية الغرفة جلس أحدهم يدق القهوة في المهباش بإيقاع منتظم بينما كان آخر يعتني بجمر النار ودِلال القهوة.
حضر الطعام في عدد من القصاع النحاسية الكبيرة، طبقة من الخبز الفتيت المشرب بالمرقة، تعلوه طبقة من الأرز، فوقها طبقة من قطع اللحم المطبوخ باللبن. وكانت تتسرب الى مسامعنا أهازيج النسوة من جانب آخر في البيت وهن يرددن:
كبيرة دار أبو فلا كبيري.. يا دار العز وساكنها أميري سرايا دار أبو "فلان" سرايا.. يا دار العز وتشرف ع القرايا..
ويتخلل ذلك بعض الزغاريد.
دارت القهوة يتخللها الحديث عن أيام زمان، عن الحمائل والعشائر والأحلاف، وأيام السفربرلك، وأنا أصغي وأستمع، بعضه أفهمه وبعضه لا أفهمه.
عاد الركب بنا إلى قبلان وقد انضم اليه موكب العروس، والدبكات والصحجات والأغاني والزغاريد، ثم توجه قسم الحريم الى بيت العريس، وقسم الرجال إلى البيادر. وقد أقيمت في مواقع متعددة ركائز من الخشب علقت عليها الكهارب "اللوكسات" التي أحضرت خصيصا من نابلس من محل "حموضة".
واسطة نقل العروس لبيت العريس كانت في الماضي الهودج المحمول علي ظهر الجمل المزين بالورود والأقمشة الزاهية، وحديثاً أصبحت السيارات الفارهة المزينة بالورود وأشرطة السيتان. محمد الآغا "العرس الفلسطيني بين الماضي والحاضر".
كانوا يجلسون على البيادر، تتوسطهم كومة كبيرة من الحطب المشتعل، ليضيء المكان، بينما تحضر مهابيش القهوة من قبل الدَلال. الكاتب والباحث في التراث الفلسطيني، نبيل علقم، قال لـ "وفا": إن الدواب كانت الوسيلة للفاردة والزفاف وطلعة العروس، في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وتدريجيا حلت محلها التراكتورات والمركبات، في الأربعينيات والخمسينيات، خاصة لدى الطبقات القادرة.
وأضاف، كانت المناطق مقسمة قيس ويمن، قيس رايتهم حمراء ويمن رايتهم بيضاء، والعروس المحسوبة على طرف لا تمر من الطرف الآخر إلا بعد تبديل رايتها.
وعن قيس ويمن، قالت الحاجة لطيفة (82 عاما) من اللبن الشرقية: في عام 1946 تزوجت من قريتنا المحسوبة على "قيس" صبية، في قرية قريوت المحسوبة على "يمن"، وفي منتصف الطريق قام حماها بتغيير رايتها من حمراء لبيضاء وحدثت مشكلة بين القريتين، قال خلالها حماها: البنت أصبحت بنتنا.