"كاوتشوك ومرايا" في مواجهة "القنّاصة والمِدفع"
غزة- حسام المغني- مع بزوغ شمس اليوم بدأت الحياة تدب في شوارع مدينة غزة استعداداً لإحياء الجمعة الثانية من فعاليات مسيرات يوم الارض التي كانت جمعتها الأولى ملتهبة وساخنة استشهد خلالها 17 مواطناً وأصيب أكثر من 1500 برصاص قوات الاحتلال.
عرَبات بثلاث عجلات "توكتوك" وأخرى تجرّها دواب تنقل على متنها إطارات سيارات قديمة تالفة وقِطَعاً من الزجاج العاكس لزوم المواجهة مع قوات الاحتلال المتمترسة خلف الكثبان الرملية وفي مواقعها العسكرية المحصّنة على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة.
وكان ناشطون أطلقوا وسم (هاشتاغ) "جمعة الكوتشوك والمرايا العاكسة" على مسيرات اليوم، بهدف استخدام هذه المواد لحجب الرؤية عن قنّاصة الاحتلال من خلال تشكيل ساتر من الدخان الكثيف عند اشعال الكاوتشوك، واستخدام المرايا العاكسة لتوجيه أشعّة الشمس لتنعكس على أعين هؤلاء القنّاصة وتحجب الرؤية عنهم لمنعهم من استهداف الشبّان.
وانطلقت المسيرات باتجاه الحدود الشمالية والشرقية لقطاع غزة يوم الجمعة الماضي بالتزامن مع ذكرى يوم الأرض، وتستمر حتى 15 أيار المقبل، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى النكبة.
وكان آلاف المواطنين خرجوا في مسيرات يوم الجمعة الماضي الا ان قوات الاحتلال باغتتهم بزخّات كثيفة من النيران الحية ما أدى إلى استشهاد 17 وإصابة أكثر من 1500 بعضهم في حالة الخطر (استشهد عدد منهم في وقت لاحق).
وتجمع مئات الفتية والشبان شرق المدينة منذ ساعات صباح اليوم وبدأوا بالعمل كخلية نحل في تجهيز الإطارات المطاطية "الكوتشوك" وتوزيعها على عدة أماكن قريبة من السلك الفاصل وسط تساؤلات تدور بينهم حول الوقت المناسب لإشعالها.
وكان خبراء في الأرصاد الجوية حذّروا من إشعال الإطارات قبل التاسعة صباحاً لأن التوقّعات تشير إلى أنّ الرياح ستكون شرقية إلى شمالية شرقية وبالتالي سيتجه الدخان نحو قطاع غزة ويتسبب بمشاكل بيئية وصحية كبيرة، منوّهين إلى أنّ الرياح بعد التاسعة صباحاً ستكون باتجاه الغرب وبالتالي سيتجه الدخان عندها صوب جنود وقنّاصة الاحتلال.
المواطن حسين العايدي (35 عاما) الذي يقطن شرق حي الزيتون كان مع عائلته من أوائل الواصلين إلى ما يُعرف بمنطقة ملَكَة إحدى نقاط التجمُّع الخمس في قطاع غزة التي تجري عندها الفعاليات.
المواطن العايدي الذي تنحدر أصول عائلته من مدينة بئر السبع باراضي العام 48، أحضرَ معه زوجته وأطفاله الأربعة وافترشوا الأرض قبل أن يتناولوا طعام الإفطار ويبدأوا بمشاركة بقية العائلات في التحضير لعدد من الأنشطة والفعاليات السلمية التي يعبّرون من خلالها عن تمسكهم بحقهم في العودة إلى أراضيهم التي هُجِّروا منها، وعن رفضهم لكافة المؤامرات ومشاريع التوطين التي تُحاك في العلَن وفي الخفاء لوأد هذا الحق المشروع الذي كفلتهُ لهم كافة المواثيق والأعراف الدولية.
وقال العايدي لـ"وفا": جِئُت إلى هنا مع عائلتي لأوجّه رسالة إلى المُحتَل أنّنا متمسّكون بحقّنا في العودة إلى ديارنا مهما طال الزمن ومهما بلغَ حجم التضحيات وأنّ حق العودة لا يسقُط بالتقادم".
وأضاف العايدي الذي يعمل حارسا لإحدى العمارات السكنيّة في حي الرمال وسط مدينة غزة" انتهزت الفرصة اليوم الجمعة لأنّهُ يوم إجازة من العمل، وأحضرت معي ما تمكّنت من جمعه من "كاوتشوك" و "زجاج" لأوزّعه على الشبّان المتواجدين في المكان حتى يتمّ استخدامه في مواجهة قوات الاحتلال التي تستهدفنا بالرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع.
وعلى بعد عدة أمتار عن عائلة العايدي كانت مجموعة من الفتية لا يتجاوز أكبرهم 16 عاما يقومون بإفراغ عدد من العربات التي تحمل الكاوتشوك والزجاج وأعلام فلسطين وكمامات مصنوعة من القماش.
أحد الفتية كان يحمل صندوقا "كرتونة" ممتلئة بالبصل بهدف توزيعها على المجموعة حتى تساعدهم في تفادي أضرار الغاز المسيل للدموع مُستلهِمين الفكرة من الطفل محمد بسّام عيّاش الذي تحوّل إلى أيقونة للنضال ضد الاحتلال بعد ابتكاره أسلوباً غير مألوفاً من قبل، من خلال ارتدائه قبل عدة أيام، كمامة بداخلها بصلة لِتقِيه من حدّة الغاز المسيل للدموع الذي أطلقته قوات الاحتلال بكثافة تجاه المشاركين في المسيرة.
واكد عدد من المشاركين في مسيرة اليوم في احاديث لـ"وفا" من داخل الخِيام التي أقيمت في المكان وسُمِّيَت بأسماء المدُن والقرى المهجّرة، إصرارهم على المشاركة الفاعلة في مسيرات العودة حتى تحقّق الهدف المرجو منها بتوجيه رسالة إلى الاحتلال أنّ شعبنا متمسّك بأرضه ولن يتخلّى عنها ولكي نلفِت أنظار العالم إلى معاناة شعبنا المستمرة منذ 70 عاماً بسبب الاحتلال.
الحاج المسن أبو حسن زيادة (83 عاماً) لم تمنعهُ الشيخوخة والمرض من الحضور إلى خيمة العودة كما يسمّيها معتبراً أنّ ذلك واجب وطني على كل إنسان فلسطيني.
وقال الحاج زيادة وهو يجلس عند باب الخيمة متّكئاً على عصا يحملها بيده، بلكنته اليافاوية: حتى لو جابوني على حمّالة بدي آجي وأشارك علشان يفهم المحتل إنو إحنا مش ساكتين عن حقنا وإذا بفكروا إنو إذا مات الجيل القديم يلي تهجّر من البلاد خلص بضيع حقنا بالعودة بكونوا واهمين لأنوا ولادنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا موجودين وبدهم يرجعوا على يافا وعلى منازلهم وبياراتهم التي هجروا منها".
وأشار بعكازه إلى أحد أحفاده الذي يلهو قُرب الخيمة ويرسم خريطة فلسطين على التراب بقطعة من الخشب يحملها بيده مضيفاً "بدك هدول ينسوا وهم بحلموا ترجع فلسطين مثل ما حكينالهم عنها قبل ما يحتلها اليهود ويهجّرونا من بلادنا".
أمّا الحاجة هند حمّيد "أم سامح" (78 عاماً) التي تعود أصول عائلتها إلى إحدى قرى قضاء صفد وعدة نسوة يقاربنها بالسن يرتدين الثوب الفلسطيني المطرّز جلسنَ داخل إحدى الخيام يتبادلن أطراف الحديث عن قراهم ومدنهم التي هُجّروا منها وفتيات أصغر منهنّ سنّاً يُنصتنَ باهتمام كبير.
قطَع حديث الحاجة أم سامح ومن يرافقها داخل الخيمة صوت عال أتى من الخارج مصدرهُ "حافلة لونها أصفر من نوع "فولكس فاغن" تحمل جهاز صوت يصدح في أرجاء المكان بالأغاني الوطنية والثورية الحماسية يختلط مع أصوات البائعين المتجولين في المكان.
مع مرور الوقت بدأت أعداد المواطنين القادمين إلى المكان تتزايد وغالبيتهم يحملون معهم أمتعة ومعدات وأكياس نايلون بداخلها بعض الشراب والطعام وزجاجات مياه، ليبدوا وكأنهم جاؤوا لقضاء نُزهة حقيقية للتمتُّع بمناظر الطبيعة الخلاّبة غير آبهين بقنّاصة الاحتلال الذين يتربصون بهم خلفَ السلك الشائك.
الشابّة نسرين (20 عاماً) طالبة جامعية ما إن وصلت إلى المكان برفقة صديقاتها وبعض أفراد من عائلتها سارعت باتخاذ عدة صور سيلفي وهي تشير بعلامة النصر وخلفها تبدو آلاف الإطارات التي تمّ جمعها وبدَت كأنها تلال سوداء اللون، فيما انشغل البقيّة بتصوير وتوثيق مشاهد لما يجري في المنطقة التي أضحَت مزاراً تؤمّه مختلف شرائح المجتمع الغزّي.
الطواقم الطبية والمُسعفين بدو على درجة عالية من التأهُّب استعداداً للتعامل مع أي طارئ، فكلما زادت أعداد المواطنين القادمين إلى المنطقة ومع مرور الوقت ترتفع جاهزيّة الأطباء والممرّضين والمسعفين حسب د. جهاد شيخ العيد عضو اللجنة الصحية في الهيئة العُليا للمسيرة.
وبيّن شيخ العيد أن وزارة الصحة أقامت خيمة مركزية في المكان تحتوي على عدد من الأسرّة والفرشات لإسعاف المصابين ومزوّدة بالمستلزمات الطبية، إضافة إلى رفع جاهزية العيادات التابعة للوزارة والقريبة من المناطق الحدودية تحسباً لوصول إصابات في صفوف المواطنين.
وأشار إلى أن غالبية الحالات التي تُصاب بالاختناق جرّاء استنشاق الغاز المسيل للدموع الذي تطلقه قوات الاحتلال يتم معالجتها ميدانياً دون الحاجة إلى تحويلها إلى المستشفيات وذلك لتخفيف الضغط على الطواقم الطبية العاملة في هذه المستشفيات، ولإفساح المجال أمامها للتعامل بالشكل الأمثل مع الحالات التي تُصاب بالرصاص الحي.
وأوضح شيخ العيد، أن الطواقم داخل الخيمة الطبية تقوم بفرز الحالات حسب نوع الإصابة حيث يتم تحويل الحالات الصعبة والخطيرة إلى مجمع الشفاء الطبي وبقية المستشفيات.