قصص من اجتياح نيسان
زهران معالي
......
ينشغل عبد صالح طقطوق (35 عاما) داخل محل والده في خان التجار بالبلدة القديمة بمدينة نابلس، بترتيب ملابس وإكسسوارات على رفوف المحل بيد واحدة، فيما يخفي خلف كُم معطفه الأيسر، حكاية الاجتياح الكبير قبل 16 عاما.
يوم الثاني من نيسان عام 2002، كان طقطوق برفقة زملائه يتوزعون كخلية نحل بين أزقة البلدة القديمة ومداخلها، يجهزون المتاريس والإطارات المطاطية لمواجهة أقوى اجتياح تتعرض له المدينة ليلة الثالث من نيسان، ضمن عملية "السور الواقي" التي قادها رئيس حكومة الاحتلال الأسبق آرئيل شارون ضد المدن الفلسطينية.
ويروي طقطوق لـ"وفا"، "الشبان من أهالي البلدة القديمة والمخيمات والقرى المجاورة تحصنوا داخل البلدة وكانوا مستعدين للدفاع عنها، صمدوا وواجهوا الاجتياح طوال 20 يوما، رغم استخدام الاحتلال أحدث الوسائل القتالية والطائرات والدبابات".
في اليوم الرابع للاجتياح، وصل لطقطوق ورفاقه معلومات تفيد بتجمع عشرات من جنود الاحتلال في ديوان بمنطقة رأس العين، حيث دارت اشتباكات مسلحة أدت لاستشهاد عدد من الشبان، وإصابة طقطوق بيده اليسرى إثر انفجار قنبلة محلية الصنع "كوع"، بعد أن باغته قناص إسرائيلي برصاصة، وفق قوله.
أمسك طقطوق بيده السليمة يده المصابة وتسلل بين أزقة البلدة القديمة، حتى وصل للمستشفى الميداني الذي أقامه متطوعون في مسجد البيك، فكان في انتظاره كوادر طبية تعاني نقص المواد الطبية والإمكانيات، وفق قوله.
"لم يكن هناك جهاز تخدير أو بنج، اضطر الأطباء لقطع يدي بسكين المطبخ وقطبوها بعدة غرز"، أوضح طقطوق.
بعد أيام غادر طقطوق برفقة عدد من الجرحى المستشفى الميداني، حيث استطاع الوصول للطواقم الطبية ونقله لمستشفى رفيديا لاستكمال العلاج، مشيرا إلى أن الأطباء اضطروا لبتر قرابة 20سم إضافية من يده بعد إصابته بالغرغرينا.
لم تنته معاناة طقطوق رغم إصابته، بل طاردته سلطات الاحتلال عدة سنوات حتى ألقت القبض عليه في منزله عام 2006 قبل حفل زفافه بعشرة أيام، ليحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وخرج عام 2011 ليبدأ حياة جديدة تزوج وأنجب طفلين.
بعد 16 عاما على الاجتياح، لا تزال أثار التدمير والمجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي ظاهرة للعيان، فعائلات أكثر من 90 شهيدا بينهم أسر أبيدت بالكامل كعائلة الشعيبي، و185 جريحا، وأصحاب 90 منزلا دمرت بالكامل و64 بشكل جزئي، لا تنسى حجم الكارثة.
على مقربة من طقطوق، يجلس وضاح دروزة (70 عاما) أمام محل لبيع عطور، يستذكر نجله الشهيد رامي الذي ارتقى أول أيام الاجتياح، "ودعنا وتوجه للدفاع عن البلدة القديمة، لم يكن ينتمي لأي فصيل بل كان ينتمي للبلد"، قال دروزة.
ويوضح "ودعت ابني على المدخل الغربي للبلدة القديمة وعدت لمنزلي القريب، وعند آذان فجر الجمعة الخامس من نيسان، أدى رامي الصلاة برفقة أصدقائه، وعندها بدأت دبابات الاحتلال بالتقدم، حدث الاشتباك وفجرت أول دبابة".
وفق رواية والد الشهيد، فإن رامي ورفاقه كان قد حاصرهم البرد والجوع فإذا بإحدى نساء المدخل الغربي تفاجؤهم بفطور فلسطيني فجرا، تناول الشهيد لقمة خبز وقطعة جبنة وشفة من كوب شاي، لكن قذيفة "انيرجا" أطلقها أحد جنود الاحتلال حرمته من إكمال فطوره الأخير.
ويشير دروزة إلى أن نجله كان أول شهيد مقاتل في الاجتياح، كان ضمن عدة شهداء دفنوا في ساحة جامعة البيك على عمق 30 سم فقط، فلم تشاهده عائلته إلا خلال ساعتين سمحت بها سلطات الاحتلال بعد 17 يوما من الاجتياح.
"خلال ساعتين فقط كان علينا حفر قبر ودفن رامي، أي عدالة هذه"، يقول دروزة.
في المدخل الغربي للبلدة القديمة، تبدو الحياة طبيعية وتشهد حركة متسارعة في المواطنين والمركبات، قرابة 50 مركبة اصطفت في ساحة كبيرة تبدو أرضا جرداء، لكن تلك الساحة كانت قبل 16 عاما تحتضن أهم صبانات (مصانع تقليدية للصابون البلدي) نابلس.
محمد الجوهري (73 عاما) الذي يملك منجرة بالقرب من صبانتي كنعان والنابلسي المدمرتين، قال لـ"وفا"، "إن طائرات الاحتلال دمرتهما وبيوتا قديمة تعود لمئات السنين، وحولتهما كراجا للدبابات وناقلات الجند".
ويشير الجوهري بيده إلى قنطرة باب منجرته، وتحدث "طمم التراب وصل حتى قنطرة أبواب المحلات، أكوام كبيرة، جميع الأبواب خلعت، وكذلك دمر الجنود الجدران الواصلة بين المحلات للمرور من بيت لبيت".
ha