رحلة الروح إلى قلب الصحراء
جميل ضبابات
مالت كوي إيمان بجسدها النحيل قليلا يمينا ويسارا، وعندما استقامت وضعت كفا فوق كف وأطلقت صوتها في فناء واحد من أكثر المقامات الدينية الشعبية شهرة في الضفة الغربية… وفي فضاء مفتوح على هضاب وتلال ذات لون طحيني، تغمض الفتاة المايوتية عيونها وتحرك رأسها وهي تردد نشيد سكان جزيرة مايوت.
حدث هذا في صحراء القدس، وتحديدا في مقام النبي موسى الديني، وفيما كانت إيمان تقدم نشيدها الروحي كان في الداخل قرب قبر ضخم يمثل قبرا افتراضيا للنبي موسى الذي جاء بالشريعة الموسوية ألقت فتاة قادمة بتركيا برأسها عند طرف البناء الأخضر وألصقت كفيها على الرداء الذي تفوح منه روائح العطور الزيتية فيما يبدو أنه بحثا عن سلام الروح.
ووصلت إيمان إلى الأرض الفلسطينية هي و12 من أعضاء فرقة إنشاد روحية قادمة من الجزيرة للمشاركة ضمن مهرجان للموسيقى الروحية تنظمه مؤسسة الكمنجاتي.
واستغل القائمون على هذا المهرجان موسم ديني اجتماعي يقام في فلسطين منذ قرون عديدة للمشاركة في يوم حافل من أيام النشيد الصوفي في المقام، الذي يقع في صحراء القدس على بعد نحو 30 كم من مركز المدينة المقدسة.
وأخبرت إيمان ( 16 عاما) وهي أصغر أعضاء الفرقة مراسل "وفا" وهي تستعد للمشاركة بالغناء أنها تشعر بالفخر.
وقالت" أنا فخورة. أنا في الأرض المقدسة".
وتتألف الفرقة من سيدة وبناتها وبعض أفراد عائلتها، ويقدمن أناشيد من النشيد الصوفي باللغة العربية، وغالبا ما تردد هذه الأغاني في طرقات تلك الجزيرة أثناء المناسبات الدينية.
وقالت الفتاة التي تحلق حولها عدد من الزائرين للمقام الذي يؤمه في هذا اليوم سنويا الصوفيون من مختلف أنحاء فلسطين "الطريق من الجزيرة إلى فلسطين متعبة. لكني أشعر بالفرح هنا".
وجزيرة مايوت هي جزيرة تقع في المحيط الهندي تابعة لفرنسا، وهي جزء من أرخبيل جزر القمر وتقع في الطرف الشمالي من القنال الفاصل بين موزمبيق ومدغشقر، أغلبية سكانها من المسلمين، رفضوا الاستقلال في الاستفتاء الذي أدى لاستقلال الجزر الأخرى كدولة اتحادية.
وقال رمزي أبو رضوان وهو رئيس ومؤسس جمعية الكمنجاتي " نريد أن نفتح فلسطين على العالم. نريد أن نفتح العالم على فلسطين".
عندما وصلت الفرقة إلى أطراف الصحراء، ومشت عبر طريق صاعد نحو المقام، وقف العديد من الزائرين ينظرون إلى نموذج جديد من المشاركين في هذا اليوم. والتقطت العديد من صور السيلفي مع أعضاء هذه الفرقة المنتظمة في مشيتها وفي غنائها.
وسمع همس منشدين صوفيين لبعضهم حول طبيعة هذه الفرقة الغريبة.
وقال أبو رضوان" هذه الفرقة إضافة لهذا الموسم لهذا العام".
وفي كل عام يصل أعضاء الفرق الصوفية إلى المقام، يضربون على الطبول ويؤدون أناشيد صوفية مختلفة.
شوهد بعضهم يحرك رأسه ويضرب بكلتا يديه قطعا نحاسية تصدر أصواتا منتظمة عالية.
وأمكن سماع صوت الطبول من داخل المقام وهي تقرع عبر الطريق المؤدي إلى المكان الضاج بالحركة وفسيفساء الأصوات واللغات المختلفة.
فالقادمون جاؤوا أيضا من دول مختلفة.
وغالبا ما تصل الفرق المحلية من محافظات الضفة الغربية ومن داخل فلسطين عام 1948. وشوهدت 5 حافلات تنقل الصوفيين من نابلس، وهي مسيرة سنوية منذ قرون يصل فيها الأعضاء حاملين معهم الرايات ويدقون الطبول وينشدون.
وقال واحد من قادة صوفيي نابلس "جئنا 250 رجلا من المدينة".
وفي بعض السنوات كانت ثمة إضافات حين وصلت فرق مولوية من تركيا، أدت الرقص الصوفي.
ويندرج إقامة هذا اليوم سنويا في المقام الذي بناه القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي تحت فئة إحياء لموسم ديني، لكنه يأخذ طابعا اجتماعيا محليا.
وفي عام 1920 أخذ طابعا سياسيا كبيرا حين أسست معركة خاضها الفلسطينيون المشاركون في الموسم ضد الإنجليز واليهود.
عندما كانت الفرقة تجتاز عتبة المقام الخارجية نحو الداخل، كانت هبات خفيفة من رياح الصحراء تحرك الرايات الصوفية في أيدي المريدين. وهمس أحد الحضور" بعض هذه الرايات حملت عندما دخل المفتي الحاج أمين الحسيني إلى هنا".
وتسمى الفرقة المايوتية بفرقــة ديبــا (تعني الكلمة النقاش في اللغة المحلية في تلك الجزيرة) وتتكــون مــن 13 امــرأة.
كانت الفتيات وهن ينشدن يرددن الأناشيد بوقع منتظم وأحيانا غير مفهوم، إذ تخفف بعض أحرف اللغة العربية وتفخم بطريقة غير مألوفة محليا.
وقالت كرمل صبح وهي منسقة إعلامية في الكمنجاتي" الناس تفاعلوا جدا مع هذه الفرقة؛ أولا لأنها جميعها من النساء وهذا غريب. وثانيا لأن لبساها جذب الأنظار".
وقالت إيمان لمراسل "وفا" إن هذا اللباس الوطني في تلك الجزيرة وسمته "سالوفا".
وقالت أبيات موني هازي وهي واحدة من المنشدات في الفرقة "نغني باللغة العربية. وهذا مفهوم هنا".
وعندما سئلت الفتاة (22 عاما) أين تعلمت اللغة العربية؟
قالت:" في مدرسة قرآنية".
وقال أبو رضوان" ما يميز هذه الفرقة أنها نسائية وتقدم أداء صوفيا روحانيا (...) تشارك 25 فرقة وصلت إلى فلسطين تقدم موسيقى تقليدية وروحية لشعوب مختلفة".
وغالبا ما يظهر الرجال في هذا الموسم يؤدون النشيد الصوفي ويقرعون الطبول. ويندر مشاهدة امرأة تشارك في حلقات الرجال.
لكن نساء كثيرات محليات وأخريات يحملن أعلاما تركية مشين وراء الصوفيين الذين وصلوا على دفعات وهم في مسيرهم نحو البوابة الخارجية للمقام.
لكن وصول الفرقة النسائية الصوفية إلى المقام غير المشهد التاريخي.
وينظم مهرجان الكمنجاتي للسنة الثالثة، ويقول القائمون عليه إنهم يسعون إلى خلق لقاءات استثنائية بين التقاليد والثقافات المتعددة، والتأكيد على الهوية الفلسطينية التي تواجه جميع أشكال العزل.
وقالت صبح "هذه الفرقة أنشدت في ساحات الأقصى أيضا".
وحمل مهرجان الكمنجاتي عنوان" رحلة الروح" ومن المقرر أن ينتهي في وقت لاحق من الثلث الأخير من شهر نيسان الجاري.
وقالت صبح "العام الماضي حمل هذا الاسم. هذه رحلة موسيقية من خلال ثقافات العالم إلى فلسطين".
هنا في مقام النبي موسى، تعبر أصوات المنشدين الصوفيين عما يجول في الأرواح. وقال أحد شيوخ الطرق الصوفية "الأرواح والعقول توصلنا إلى الله".
في المقام الذي بني لتشكيل منطقة عازلة لحماية القدس من هجمات صليبية محتملة بعد تحريرها حينذاك، ما زال الفلسطينيون يرون في البناء علامة فارقة في وسط صحراء جرداء لا أبنية فيها تفصلهم عن القدس التي عزلتها إسرائيل نهائيا.