صبار يخلد ضحايا حوض المتوسط
جميل ضبابات
عصيرة الشمالية شمال نابلس بلدة شهيرة بحقول زيتونها، لكن بضعة أشجار صبار فيها ستكون ملاذا لضحايا اللجوء من حوض المتوسط الهاربين من بلدان تعصف بها حروب أهلية.
في الواجهة الغربية من البلدة التي اشتهرت في الماضي البعيد بكثرة معاصر العنب، وفي الوقت القريب بمعاصر الزيتون، يقع مسرح في فضاء مفتوح، لتجسيد أجساد أطفال لقوا حتفهم في الهجرات الداخلية والخارجية التي دفعت الملايين الى الهروب من بيئاتهم المشحونة بالخوف والقتل.
متسللا بصعوبة بين أغصان متشابكة لشجرة صبار، يروي أحمد ياسين وهو فنان فلسطيني كيف أراد تجسيد صورا لأطفال لقوا حتفهم في أتون تلك الحروب.
وقال ياسين (23 عاما) وهو يعمل أيضا معيدا في كلية الفنون في جامعة النجاح الوطنية" أريد أن احفر صورهم كي تبقى للأبد".
ويشير الى صورة أحدهم، وهو طفل سوري لقي حتفه في الحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات، وقد جسدها بنقشها على جذع شجرة صبار تواجه منزله من ناحية الشرق.
ويقوم عمل ياسين بداية على تجسيد تلك الصور عبر قوالب ترابية- إسمنتية، وثم نقلها لحقل الصبر، قبل حفرها على أحد الجذور الضاربة في الأرض.
وأخبر الشاب مراسل "وفا" "أريد ان تبقى أجسادهم ملتصقة بالأرض".
وتسبب النزاع القائم في سوريا منذ 2011 بتشريد نصف السكان داخل البلاد وخارجها، كما تفيد أرقام متقاربة لمؤسسات دولية.
وأدت موجات هجرة متتالية الى الدول المحيطة بسوريا، ومنها إلى بقية أنحاء العالم الى فقدان الكثيرين لحياتهم، بسبب طول المسافة، والمرض، وظروف الطقس، أو الغرق في البحار.
وقال ياسين الذي أنهى أول حفر لمأساة أحد الأطفال " أردت أن يبقى مخلدا إلى الأبد هنا".
تبعد عصيرة الشمالية عن مركز مدينة نابلس نحو 7 كيلومتر، ويعمل الشاب في معمله داخل منزله، بعد الوصول اليه مساء كل يوم، لكنه يستغل أوقات أخرى لزراعة مزيدا من أشجار الصبار لمتابعة الحفر في المستقبل.
وقضى أطفال سوريون كثيرون تجمدا، وبعضهم اصبح ايقونات عندما قذفته الأمواج الثائرة في عرض البحار إلى شواطئها.
كانت قصة ايلان كردي الذي وجد في الثاني من تشرين الثاني في العام 2015 ميتا على شاطئ في تركيا واحدة من قصص الأطفال المشردين التي هزت العالم.
بالرغم من انخفاض أعداد اللاجئين والمهاجرين الذين وصلوا إلى أوروبا خلال العام الماضي، إلا أن المخاطر التي واجهها الكثيرون منهم أثناء سفرهم قد ازدادت كما ذكر تقرير حديث صدر عن مفوضية شؤون اللاجئين تحت عنوان "الرحلات البائسة".
وقال ياسين" المآسي في منطقة المتوسط تزداد، لذلك أريد أن اعطي امتدادا أوسع لمساحة الأرض التي سأزرعها بالصبار".
وتفاقمت مأساة اللاجئين إلى حد كبير بسبب اضطرارهم للمرور عبر ممرات بحرية.
وقال تقرير أممي نشر قبل أيام في موقع أخبار الأمم المتحدة" هناك انخفاضا كبيرا في أعداد القادمين إلى إيطاليا عن طريق البحر منذ تموز 2017، معظمهم من ليبيا.
كما استمر هذا الانخفاض في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2018، وهو ما يعادل انخفاضا بنسبة 74? مقارنة بالعام الماضي.
"ثبت أن الرحلات البحرية إلى إيطاليا كانت محفوفة بالمخاطر بشكل متزايد، وقد تضاعف معدل الوفيات بين أولئك الذين قدموا من ليبيا عبر البحر خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي".
وقال ياسين" هكذا رحلات خطرة بحاجة إلى فن مختلف".
ولا تشتهر البلدة بزراعة الصبار بقدر شهرتها بزراعة الزيتون واللوزيات، وتحيط سلسلة من حقول الزيتون الكثيفة بأطراف البلدة.
من على بعد تبدو عصيرة الشمالية غارقة في تلك الحقول.
ونظرا لسلطة أشعة الشمس القوية، واجه ياسين قبل سنتين عندما رسم ضحايا المآسي الشرق أوسطية على أوراق الصبار مشكلة ذوبان الرسومات، لذلك يقول انه اراد نحت صور الضحايا عوضا عن رسمها لتبقى.
وقال وهو يشير إلى أولى الأشكال المحفورة" ستبقى هذه المنحوتات شاهدة على حروب المنطقة(...) الصبر مفتاح الأمل"، وهو بذلك يشير الى قدرة تحمل هذه النباتات لظروف الطقس وطبيعة الأرض القاسية.
وأضاف" بحثت عن لغة عالمية لتجسيد هذه المأساة، الصبر لغة يفهمها الجميع".
وكان الشاب الذي عمل سابقا في رسم وجوه الأطفال على أوراق الصبر قبل أن ينتقل الى حفرها على الجذوع قد لفت انتباه المجتمعات خارج الأرض الفلسطينية، "رحت الى تونس ورسمت على أوراق الصبر هناك".
في هذه الأيام بدأ الصبار بإعطاء الثمار، فثمة أكواز متباينة الأحجام من الأكواز الشوكية تشكل عاملا ضاغطا آخر على ياسين.
وغالبا ما يلجأ الفلسطينيون في العقود الأخيرة بالبحث عن أصناف جديدة من الصبار الذي ينتهي بقمم نامية قليلة الأشواك.
وقال ياسين" هذه الأرضية التي سأعمل عليها.. لن يثنيني الشوك".