"الفراشة" القاتلة
رام الله- حسام المغني- لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بالاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وتشريد أهلها، وإنكار أبسط حقوقهم التي كفلتها لهم الأعراف القانونية، والإنسانية كافة، بل يضيف إلى هذا كلهُ جريمة جديدة تتمثّل في استخدام أجساد أبناء شعبنا، كحقل تجارب، لأسلحة جديدة يُطوّرها.
ومنذ انطلاق مسيرة العودة في الثلاثين من الشهر المنصرم، أصيب آلاف المواطنين المتظاهرين سلميّا قرب السياج العنصري الفاصل شرق قطاع غزة برصاص قنّاصة الاحتلال، ومنهم من استُشهِد بعد وصوله إلى المستشفيات بوقت قصير، رغم أنّ إصابتهم توحي للوهلة الأولى أنها بسيطة، ويمكن علاجها بسهولة، وآخرون تعرضت أعضاؤهم للبتر والحروق بدرجات متفاوتة.
وأثارت الحالات التي وصلت إلى المستشفيات دهشة الأطباء الذين وجدوا صعوبة في التعامل معها، كونها تسبّب حروقا تصل إلى العظام، وتُحدِث نزيفاً نسيجياً، وتسمماً للأوردة، والشرايين، وتهتّكاً في الأنسجة، والعضلات، وهو ما يؤدي في النهاية إلى إعاقات مستديمة حسب د. نضال كامل المغنّي استشاري وأخصائي جراحة العظام في مجمّع الشفاء الطبّي.
وأكد المغنّي لـ"وفا"، أنّ الإصابات التي وصلت إلى المجمّع وبقيّة المستشفيات في القطاع تثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الاحتلال يستخدم نوعا جديدا من الرصاص الحي يُحدِث في أجساد المصابين أضرارا صحيّة خطيرة، تؤدي إما إلى إعاقات، أو الموت.
وأوضح، أنّ الرصاص المستخدم يخترق جسد المصاب، فينفجر بداخله، وتصيب شظاياه عدة أعضاء داخل الجسم، وليس المنطقة المستهدفة فقط، ويسبب تفتتا في العظام، والأوعية الدموية، والشرايين.
وأشار إلى أن الطواقم الطبية لاحظت خلال الأسابيع الأربعة منذ بدء مسيرة العودة أن غالبية الإصابات كانت في مناطق مفصلية وحساسة في القدم مثل: مفصل أسفل القدم، ومفصل الركبة، ويحتاج ترميمها وإعادة تثبيتها إلى تدخل جراحي دقيق، ووقت طويل للتعافي منها.
ولفت المغنّي إلى أنّ هناك حالات أصيبت في حرب 2014 بالأسلحة المتفجرة، وتمّ إجراء عدة عمليات جراحية لها، وما زالوا حتى اللحظة بحاجة إلى عمليّات أخرى، ومتابعة طبيّة.
من جهته، أكّد استشاري ورئيس قسم جراحة الأوعية الدموية في مجمّع الشفاء د. أبو بكر سالم داوود في تصريح لـ"وفا": أنّ معظم الحالات التي وصلت كانت مصابة بنزيف نسيجي، وتسمم للأوردة، والشرايين، إضافة إلى تهتك في الأنسجة، والعضلات، وهو ما يشكل تحديا كبيرا للطواقم الطبيّة المتخصّصة في التعامل مع مثل هذه الحالات.
وأضاف داوود أنّ الطواقم الطبيّة المتخصصّة في جراحة الأوعية الدموية والعظام تتحمل العبء الأكبر عند إجراء العمليات الجراحية، كون غالبية الحالات أصيبت بتهتك جميع الأوردة، والشرايين، والأعصاب، والعظام، مشيرا إلى أنه تم إجراء عمليات للجرحى على عدة مراحل، لإعادة بناء الأعضاء التي تعرّضت للضرر.
وحسب داوود، فإنّ الرصاص المستخدم من قبل الاحتلال ضد المتظاهرين شرق غزة من عيار ثقيل، ومتفجّر، حيث يتراوح مدخل الرصاصة ما بين 2 سنتيمتر إلى 3 سنتيمترات، ومخرجها كبير يتجاوز 20 سنتمترا أحيانا، وتُحدث خلال مرورها تهتّكاً كبيراً وخطيرا في الأنسجة والأوعية الدموية وتهشّماً للعظام ومضاعفات صحية أخرى خطيرة.
ووثّقت وزارة الصحة منذ بدء مسيرة العودة وحتى اليوم، آلاف الإصابات منها خطيرة، وغير مسبوقة؛ بسبب نوعية الرصاص المستخدم الذيُ يسبِّب مضاعفات مركّبة.
وأوضحت الوزارة أنّ أكثر من 5000 مواطن أصيبوا بجروح متفاوتة، من بينها: أكثر من 1300 إصابة بالرصاص المتفجّر الذي ينشطر داخل الجسم، ويصيب الأنسجة، والعظام، والأوردة، والأعصاب والشرايين، لا يزال 138 منهم يعانون وضعا صحيا حرجا.
وأشارت إلى أن الإصابات متنوّعة حيث أصيب المئات في الرأس، والرقبة، وآخرون أصيبوا في الأطراف العلوية "في الظهر والصدر والبطن والحوض"، وإصابات أخرى في الأطراف السفلية أحدثت كسورا شديدة وإعاقات وبتر في الأطراف السفلية والعلوية.
ويحتاج غالبية المصابين إلى جراحات مركّبة ما بين تثبيت عظام ووصل شرايين وترقيع أنسجة ويحتاجون لوقت طويل للتعافي.
وحسب خبراء عسكريين، فإنّ الرصاص الذي يطلقه الاحتلال تجاه المتظاهرين هو رصاص متفجّر، وينقسم إلى نوعين حسب الحجم، عيارات صغيرة تُطلَق من بنادق خفيفة "M16"، وأخرى ثقيلة تطلق من بنادق قنص ثقيلة، مخصصة للإصابة من مسافات بعيدة، وهي ذات عيارات كبيرة، وإذا ما أصابَت من مسافة قصيرة كما يحدث ضد المتظاهرين في مسيرة العودة، يكون أثر الإصابة مضاعفا.
ويُعَد "الدمدم" و"الفراشة" أو الرصاص الانشطاري المتفجّر من أبرز الأسلحة التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين -خاصة الأطفال- منذ "انتفاضة الحجارة"، وحتى الآن، رغم تحريمه دولياً.
وأخطر في ما الأمر -حسب مختصّين- أنّ هذا الرصاص يطلُقه قنّاصة محترفون يركّزون على المناطق العلوية من جسم الإنسان، ما يتسبب في هتك الأحشاء، إضافة إلى مدخل ومخرج الرصاص من الجسم، ويعتبر "الفراشة" من أخطر أنواع الرصاص المحرّم دولياً، لأنه يؤدي إلى تفتُّت الكبد، والأمعاء، ويصيب الرئتين، وأعضاء الجسم الأخرى، كما حصل مع الشهيدين الصحفيين ياسر مرتجى، وأحمد حسين.
وأوضح الخبراء، أن هذه الرصاصة حين تصطدم بالجسم، فإنّ أجزاء من الرصاصة سواء من مركزها، أو من رأسها المدبب، يتبعثر على نطاق واسع خلال جزء الجسم الذي اصطدمت به، وتستقرّ فيه، ما يؤدي إلى حدوث مضاعفات خطيرة في وقت لاحق؛ إذ يُمكن أن تتسبب في تمزق عضو مهم في الجسم بسبب أجزاء الرصاصة، وذلك لأنّ كمية كبيرة من الطاقة التي تمتلكها الرصاصة، وهي الطاقة التي يرجع إليها السبب في قوتها المدّمرة تؤدي إلى التشوه أو التمزّق في جزء الجسم الذي ترتطم به، كما أنّ الرصاصة تصيب العظام وتؤدي إلى تفتتها، ما يؤدي إلى حدوث جروح في الأجزاء الحساسة.
وأشاروا إلى أن إعلان لاهاي حظر استخدام رصاصات دمدم في عام 1899م، لأنها تتسع أو تنفجر بسهولة في جسم الإنسان، وقد منع إعلان لاهاي استخدام هذه الرصاصات واصفا إياها بأنها تسبب معاناة "لا لزوم لها"، أو "لا مبرر لها".
وبرر مؤيدو هذا الإعلان ذلك، بأن تأثير رصاصة البندقيّة العادية كافٍ لوقف حركة الشخص المقابل، واستخدام الرصاص الدمدم التي ينتج عنها جرح أبلغ يعتبر أمرا غير مبرر.
كما تعتبر بندقية هذه الرصاصة ذات سرعة أقل من حوالي 800 متر/ ثانية، وتكون البندقيّة ذات شكل تقليدي، وتقوم بنقل ما نسبته حوالي 20 في المائة من طاقتها الحركية عند اختراقها للأنسجة البشرية، ويمكن أن يزيد مقدار الطاقة المنقولة إذا تم توفير قذيفة مع رأس ليّن، والتي تؤدي إلى تشويه الجسم بشكل أكبر، وبهذه الطريقة، تستطيع البندقية نقل ما يصل إلى 80 في المائة من طاقة الرصاصة إلى الجسم، وهذه من أبرز خصائص رصاصة الدمدم.
المنظمات الحقوقية اعتبرت هذه الأنواع من الرصاص خطرة وفتّاكة وتكمن خطورتها في استخدامها من قبل قنّاصين يستهدفون ضحاياهم بطريقة مباشرة وقاتلة.
ويلقى إدخال هذا النوع من الطلقات بأي مواجهات اعتراضات واسعة من قبل مؤسسات حقوق الإنسان كونه من الأسلحة المحرمة دوليا وفق اتفاقية لاهاي 1899.
وقالت منظمة "أطباء بلا حدود" في غزة، إنّها تلقّت جرحى فلسطينيين برصاص الاحتلال الإسرائيلي يعانون من إصابات خطيرة وذات تأثير مدمّر مخالف لنوعية الإصابات التي اعتادوا على التعامل معها، وهو ما تسبب بصعوبة علاجها.
وأضافت المنظمة بعد تقديم فرقها الطبية الرعاية لأكثر من 500 مصاب بأعيرة نارية خلال مسيرة العودة، انّ معظم تلك الإصابات ستترك إعاقات بدنية خطيرة طويلة المدى.
وذكرت رئيسة بعثة منظمة أطباء بلا حدود في فلسطين، ماري إليزابيث إنجرس: أنّ نصف المصابين في عياداتنا يعانون من إصابات بعيارات نارية دمّر فيها الرصاص الأنسجة، بعدما سحق العظام، وهو ما يستدعي إجراء عمليات جراحية معقّدة للغاية، كما سيعاني معظمهم من إعاقات طوال حياتهم".
وأضافت ان "التعامل مع هذه الإصابات أمر صعب للغاية، فبالإضافة إلى الرعاية الطبية العادية، فإنّ المرضى غالبا ما يحتاجون إلى جراحة إضافية وعلاج طبيعي طويل جدا، وكذلك العمل على إعادة تأهيل المصاب".
وتابعت "وستترك هذه الإصابات قصورا وظيفيا دائما لدى الكثير من المرضى، وقد يحتاج بعضهم إلى عمليات بتر إذا لم يتم توفير العناية الكافية لهم في غزة، ولم يتمكنوا من الحصول على التصريح اللازم للعلاج خارجها".
بدوره، طالبت عدة مؤسسات حقوقية في بيانات لها، بتحرك دولي عاجل من أجل إرسال لجان تحقيق متخصّصة في استخدام الاحتلال الإسرائيلي أسلحة محرّمة دوليا، بحق تجمّعات المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة وتسبّب لهم بحروق خطيرة.
وأشارت المؤسسات الحقوقية إلى أنّ الاحتلال الاسرائيلي بات يستخدم أسلحة متفجّرة غريبة، وبناءً على ملاحظة الأطبّاء في المستشفيات فإنّ هذه الأسلحة غير المعروفة تُسبِّب حروقا تصل إلى عظام أجسام الجرحى والشهداء، إضافة إلى استخدام أسلحة تُطلِق دخانا، وغازا غريبا، يؤدّي إلى ضيق في التنفُّس، خاصة لدى الأطفال.
ونوّهت إلى استخدام الاحتلال خلال الحروب الثلاث على غزة لأسلحة محرمة دوليا، منها "الفوسفور الأبيض"، الذي يتسبب بما يشبه الهستيريا، والتشنُّج، وضيق في التنفس، وتقلُّص في العضلات.
وأضافت: الاحتلال الاسرائيلي يستخدم منذ بداية انتفاضة الأقصى وحتى اليوم هذه الأسلحة المحرّمة بحق المدنيين الفلسطينيين، ويتعمّد قتل المدنيين والدلائل واضحة على الأرض من حيث الأعداد الكبيرة من الشهداء والجرحى الذين سقطوا جراء العدوان الإسرائيلي المتصاعد والاستهداف المباشر للطواقم الطبية والإعلامية.
وناشدت بالتحرك الفوري والعاجل لوقف جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء شعبنا، وتمكين الجرحى من العلاج في الخارج.